...أرقام...
لا لست مثلكم أيها القوم
ولستم مثلي
بل والحقّ أنّني نظيركم بعد ألف سنة
وقبل مليون
أوراقي البيضاء لا تستغيث أشباحكم
ولا كتابة عظامكم المطليّة زيفاً
ولا القنديد المتجمّد في أوعيتكم
ففي أحشائي دهر يمقتني ويحبيني
يأبى التأوّه إلّا كدويّ جنين في أحشاء أمه
عند خلع الوصال
لذا أعتقد أنّني بخير
لأنّني في قمة الغرق
على ضفاف جون بنور طافٍ
أمحي الظلّ بفقاعات بلّورية غضّة
أتمنطق بالشمس
أعاقر جفاف الملح والحصى
في روغ هذه النداوة
فلا قارب تعوزه علّتي ولا مركب
لأنّني أسبح في سماء البحر
وأسابق الضباب بأذرعة عاقلة مجنّحة
ولأنّني صارخ أبدا
فأنا رغم اختناق الحرف في بدني
أؤمن...
بتلك الومضة الوجدانية
بذبذبات تلك الدائرة العليا في حدائق الله
بروح أثيرية لا تؤمن بخوارج حيواتيّة
ولا بأذهان حبيسة أرقام متيبّسة
أؤمن بصداقتي لذاتي الكبرى
فنحن لبعضنا أوفياء
أؤمن وأستيقظ كل يوم لأرمي ما سبقه
في سلة الذكرايات وأنتشي
بمدائح صبح جديد
بعد الأجل
أؤمن بأنّني حيّ كما قالت لي أمي
وكما يخبرني ذاك الحبل المربوط في أسفل روحي كلّما تنهّدَت
وبأنّني إبن الحياة التي أتمنّى
وأخ الجلّاد الذي يسعفني
وقريب ذاك المجنون الذي يقضمني
وسلطان الحكمة التي تحرّكني
وسيد الرغبة التي تحثّني على الصمود
وإنّي حبيبك أيتها الفردوس
وأنّني لك أيتها الطبيعة
وأنّكِ كل هؤلاء
يا حبييتي
إجترع غُصص غيرتك يا حضرة الكون
واسترط غيظك الجائر وتمزمز
إطمئني يا أيتها العناصر
إن جاثوم الجزع قد اغتيلت أصنامه
وآتون الخوف أضناه القلب
فلا خوف من ظمئ اكتنف السيل معبداً
من ثائر أديم الروح مدماكه
من طيف سابح دون المساحات والأعمار
ممّن عبّأ الغيث في دِنان شتائه
بعد أن اقتنى الخريف مبتسماً
فقبّل زهور الربيع علاوة
وتعشّق الصيف
وأؤمن أيضاً بأنّني موجود
وبأنّني عقيدة وحلم ومسعى وتقدير وثبات
وحب وطفل وعظمة امرأة ونبض
بعد الموت وقبل الحياة
ها إنّيّ أقف على جبين الوجود
كأسوار أعداد متفجّرة
كرجل متجمّر بين عيدان القش يعدّها
ويجمعها من أنحاء الربع الخالي
أو كمُسِنّة تهجّي حروف مذكّراتها يوميّا
كاختبار لإيمان نبيّ ولصبر أيوب
فوصمة عار أن أكون
أو إحتفال لا ينتهي
أنا بخير أيتها الحبيبة فلا تقلقي
يا أرض أجدادي الرسل وحافري تواريخ الأزمنة
أنا رسالة لم أكتبها..
بداية لم أعنونها..
ورقم غير منظور يعتلي ذهنية رشيقة
يستنبط قيم معنوية لا محدودة
من أسفار حفظتها الدهور
وشطور لم تعرف ملل الترحال
أنا كمن يخطّط ظلّه على المياه مرة أخرة ليُمحى فينبت مجدداً أمام الشمس
في فعل محبّة عظيم
وإنّي لبحث مسيّر الخطى ومخيّر الأحداث
دربي شاطئ الفجر
وقلبي النجوم
لقد منعت نفسي من الرثاء
قلّمت أظافري المئة
ورميتها لألسنة الدهر
لرماد قضية منتهية الصلاحية
وعصور قديمة متوهّجة
فلم أكن أعرف أن في الشرق بتول
كفكر عشيقتي القصيدة
ذات القدمين المخمليتين
وأصابع السكّر في حساء حروفي
فرأيتني أحرق ما تيسّر منّي على محارق أناملي
وأمتطي إنسانيتي المتهورة
أرمي بنفسي على أهداب عفريت
من العصر الجديد
وأسجد وقصيدتي نغنّي
سألت العطّارين والمبخّرين والمنجّمين
عن حال فتى وإن كذبوا
أن كيف الإنتقال من تورّم لتشقّق
لتوأم برأسين مختلفين متخالفين
حتى أتاني جواب الرحمة
مرفرفاً على منقار حمامة طوتها السنين
من خلف جدران مدينة الوحل
كمهرجان طين روحيّ
عرّافة بجناحين تقول:
جميل أنت يا ولدي في كلّياتك
أنّت كقرون الشمس الأولى
وكبريق الفجر الأول
وكتفتّح أول زهرة على المرّيخ
إن الفصول تحبل بك يا ابن الأرض
كأنك خارج الوقت والزمان
لذا لا خوف عليها من ركود النسل
نم هنئاً واسبح بعيداً في غيوم طائرك
قبل أن تتزوّجك ملائكة الصحو
فسمعتها مليّاً وكذّبتها
لأنّها أقنعتي بأنّني بخير
نعم أعتقد أنّني بخير وأكثر
لذا، أريد أن أحتسي نفسي أيها السادة
أريد أن يختمر رقمي الصلد
في البحور والسماوات
وأرقام أرقامي في عوالم الغد
أريد أن ألبسكم يا أبناء أمّي وتلبسوني
خارج هذه الأنسجة الأرضية
أن نرمي يومنا لغده ولذكرى الأمس
أن يحلّق واحدنا بالآخر في ذواتنا العظيمة
أن نتّحد دون أن نتوحّد
أن تشتمّوا خلوتي وكلام الحقل
قبل أن يصيبنا المساء
بيقظته الناقصة
أنا واثق أنّنا سنكون بخير
فلتتفضلوا إلى عرس مدادي
وحفلة إسْفَنط صفحاتي
إلى غرفتي الخضراء
وقُمْرة أحلام لياليها
فُسحة تحتدم بسيالات دماء شقية ملوّنة
تنهل من جرارها الفطائم لبناً
وتسكر من أوعيتها العصافير حرية
فتغرّد على الأسطح
وتصرخ في المجالس وتتنكّر
من تلك الحقول المهترءة
في جماد الأرقام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق