بقلم الأديب المصـــرى د. طـارق رضــوان جمعــه
يقول الله عزوجل : }مَن يُؤْتَ الحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا{.
ويُقال “إن من الشّعر لحكمة”، وقيل: “الحِكْمَة ضالة المؤمن”. وسمي لقمانُ حكيمًا؛ لأنه ينطق بالحِكْمَة ويعمل بها.
احب الصالحين ولست منهم .. عساني ان انال بهم شفاعة
و اكره من تجارته المعاصي .. ولو كنا سوادا في البضاعة . (محمد بن إدريس الشافعي)
المقدمـــة:
ما الحكمة؟ ومتى كانت بداية أدب الحكمة؟
الحكمةُ كلام بليغ موجز، قريبةُ الشَّبه من المثل، وهى مظهر من مظاهر ثقافة الأمة تصدرُ عن الحكيم المجرَّب، بأسلوب أكثر وضوحًا، وأعمق تفكيرًا، وأعم فائدة، فيها الموعظة الحسنة تستهوي السمع، فيكون لها أثرها القوي في النفس. وقد ظهر هذا النوع من الأدب فيما يسمى "بتعاليم بتاح حتب " وهى من الروائع المصرية القديمة فى أدب الحكمة حيث كان بتاح حتب وزيرا "للملك جد-كا-رع" مؤسس الأسرة الخامسة عصر الدولة القديمة.
المحتـــويات:
1- مـا هـــو أدب الحكمة؟ ومتى كانت بدايته؟
2- أدب الحكمة عند أدب الغرب
3- ما أهداف ومميزات شعر الحكمة؟
4- ما الفرق بين الفلسفة والحكمة؟
5- لماذا يُعد ابن المقفع من الحكماء؟
6- لماذا قصّة حي بن يقظان لابن طُفَيْل درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟
7- الخلاصــــة
الغرب وأدب الحكمة:
لا يقتصر أدب الحكمة على الأدب العربى فقط فلكل ثقافة ولكل حضارة جيل جديد يجب الإهتمام بتنشئته وتعليمه الطريقة الصحيحة للتعايش. والقرأن والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء كانت وما زالت خير أدلة على أدب الحكمة. قام هولواي ببناء المفهوم كوسيلة لإعادة اكتشاف قيمة الكتاب الفيكتوريين الذبن شوههم الحداثيون بسبب الإطالة والوعظ. كتب "لا أحد بالطبع يقترح أن الأدب الفيكتوري "الملهم" هو خزينة كافية للحكمة المنسية . و لكن يمكننا الان أن نرى أن المعلمين الفيكتوريين لا يستحقون التجاهل بل الاحترام والاهتمام" . وقام هولواي بتحديد توماس كارليل باعتباره المنشئ لهذا النوع.
ولكن هل للحكمة شعر خاص بها؟ وما هو شعر الحكمة ؟
من أهداف شعر الحكمة معالج للعديد من النماذج السامية؛ كالأعراف والتقاليد السائدة. الحث على مكارم الأخلاق؛ من شهامة والقوة والرجولة والتسامح والوفاء. التحلي بالصبر والحث عليه في شتى أمور الحياة.ويمتازشعر الجكمة بعذوبة الألفاظ وسهولة المعاني. كثرة تكرار الألفاظ التي تدل على تأكيد المعاني. قوة التراكيب والتجانس حضور الخصائص الأدبية؛ كالاستعارة والتشبيه والكناية. عذوبة القوافي وجمالها. من أكثر الشعراء الذين عرفوا بجمال شعر الحكمة لديهم هو الشافعي:
ولا تري للأعـادي قط ذلاً فإن شماتة الأعداء بلاء
ولا ترجو السماحة من بخيل فما فى النار للظمان ماء
ورزقك ليس ينقصه التأني وليس يزيد فى الرزق العناء
ولا حزن يدوم ولا سرور ولا بؤس عليك ولا رخاء
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضاء ضاق الفضاء
دع الأيام تغدر كل حيـن فما يغنى عن الموت الدواء
ما الفرق بين الفلسفة والحكمة؟
ذكر أحمد أمين فى كتابه ( الحكمة فى الأدب العربى) أن الفلسفة هى تفكير منظم مبوب، تُبنى مسائله على أساس منطقى.وأن طابع الفلسفة طابع تحليلى: يحلل الفكرة ويُرجعها إلى أصولها ويبين نتائجها. فهى تعتمد على التأمل والتفكير العقلى. فهى أسلوب النخبة، فلا عجب أن يلفها الغموض وتعقد الأسلوب. ويُقال أن الحكمة خاصة البدائيين وإنها المادة الأولى التى يبنى عليها الفلاسفةُ فلسفتهم، فالفلسفة هى حكمة مرتبة ومحلله تم شرحها وتعليلها وتم حصد نتائجها.
بينما الحكمة هى نظرات لامعةُ خاطفةُ من هنا وهناك. وطابع الحكمة تركيبى:يركز التجارب فى جملة، ويعصر السحاب المنتشر فى قطرات المطر. وهى تعتمد على الإلهام، والإستعداد الشخصى لإجتذاب المعنى العميق من الأحداث السطحية. وهى ثقافة شعبية يدركها الخاصة والعامة، يفسروها بمقدار مواهبهم ، ولهذا فصياغتها رشيقة خفيفة. يتأثر الذوق العربى بالحكمة نثراً وشعراً من عهد لبيد وصولاً إلى المتنبى وإلى أحمد شوقى.
لماذا يُعد ابن المقفع من الحكماء؟
ما رُزِقَت العربية كاتبًا حبَّب الحِكْمَة إلى النُّفوس كـ(ابن المقفَّع المقفِّع)، فإنه يعمد إلى [الحِكْمَة العالية]، فلا يزال يَرُوضُها بعذوبةِ ألفاظِهِ ويستنزلها بسلاسة تراكيبه حتى يبرزَها إلى النَّاس سهلةَ المأخذِ، بادية الصّفحة، فهو من هذه الجهة أَكْتَبُ الحكماءِ وأحكمُ الكُتَّابِ. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
ويضيف خليل مردم أن ابن المقفَّع المقفِّع صاحب الطَّريقة التي آخَتْ بين التَّفكير الفارسي والبلاغة العربية ، فهو كاتب حكيم، تغلب عليه الحِكْمَة في كل شيء، وكل ما وصل إلينا من آثاره لا يخرج عن المواضيع الحكمية، فـ(كليلة ودمنة) و(الأدَبان الكبير والصَّغير) كُتُب ترمي إلى تهذيب الأخلاق وإصلاح النُّفوس.فهو حكيم في ألفاظه وتراكيبه كما هو حكيم في أغراضه ومعانيه. وبارع فى ترتيب أفكارِه وحُسْن تقسيمها، ولعل ذلك نتيجة دراسته للحكمة الفارسية والفَلْسَفَة الهندية واليونانية مع صحة طبعه.
قال الرَّاغب الأصبهاني: “كان (ابن المقفَّع المقفِّع) كثيرًا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيُّره. "وهذا ما اعتُبِرَ أسلوبًا أدبيًّا بحد ذاتِهِ: تخيُّر الكلمات.
لماذا قصّة حي بن يقظان لابن طُفَيْل درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟
الأمرُ المميّزُ في قصّة حي بن يقظان لابن طُفَيْل– كما تقول عبير الشّشتاوي في دراستها: (دراسة موجزة حول رسالة حي بن يقظان.. لماذا هي درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟
السر هو القالبُ الأدبيُّ الإبداعيّ الذي وضعَ فيه أفكارَه الفلسفيَّةَ والمتصوّفة؛ مما جعلَ القارئَ حاضرًا في كلّ جوانبِ الرِّواية، وكذلك تنقّل ابن طُفَيْل في الأساليبِ المختلفة ِفي السَّرد؛ فيبدأ محدّثًا مخاطبَهُ عن نشأة ِ “حي بن يقظان” بأنَّ هناك امرأةٌ كان أخوها ملِكًا، وكان يمنعُها عن الرّجالِ وعن الزّواج، فعرفَت تلك المرأةُ رجلًا يسمّى (يقظانًا) وأنجبت منه طفلًا، وخافت على طفلِها فألقته في اليَمّ – الذي يذكرّنا بقصة سيدنا موسى عليه السَّلام- فجرفتهُ المياهُ إلى جزيرةٍ استوائيّةٍ معتدلةٍ وخصبة، نشأ فيها بجوارِ ظبيَةٍ أرضعَتهُ؛ فكانت كالأمِّ بالنسبة له.
وبعد ذلك ننتقلُ بالأسلوبِ السَّرديِّ الروائيِّ عن نشأة حي بن يقظان الفطريّةِ بين الطبيعة، ثم تأتي اللحظةُ الفارقةُ لحي بن يقظان التي ينبثِقُ منها وعيُه: عندما تموتُ الظبية، ويقومُ بتشريحِ جثّتِها ليبحثَ عن علّةِ سكونِها ليصلحَها، ومن هُنا تبدأُ تساؤلاتُهُ عن أمرِ الموتِ والحياة، الجسدِ والرّوح، ومعانٍ أكثرَ وأكبر؛ فيمرُّ عمرُهُ في التأمُّلِ والتعلُّم، وتتكوَّنُ لديه الفِكَرُ والحقائق؛ فيلجأُ لتشريحِ الحيواناتِ لستنبطَ أوجُهَ الشبَهِ في العلَلِ المختلفة، ويتفحّصُ النباتَ والأحجارَ والماءَ والتراب، وتارةً ينظرُ إلى الفَلَكِ والقمرِ والنجوم، وتتكوّنُ لديه الحقيقة: أنّه لابُدَّ من وجودِ روحٍ غير الأجسام، و أنَّ كُلَّهم لابُدّ لهم من خالقٍ واجد؛ هذا الذي أوجدَ ذاتَهُ التي وَعَت به.
ويصلُ ابنُ طُفَيْل ببطلِهِ إلى أعماقِ التصوّف، ومن خلالِ جولاتِ(حيٍّ) وتفكُّرِهِ في السماءِ والأرضِ والصفاتِ الإلهية؛ أخذ ابنُ طُفَيْل يسردُ تأمُّلاتِه وأفكارَه عن الكثيرِ من القضايا.. ويصلُ ابن يقظان في النهايةِ إلى أن يرتقي بفكرِه ويَصير عابدًا زاهدًا.. لذلك يمكنُنا القولُ أنَّ (حي بن يقظان) بمُجمَلِها تعبِّرُ عن الوعيِ الإنسانيِّ في نموِّه وارتقائِه.
أمَّا في الجزءِ الأخير؛ يعرضُ قضيَّةَ الصِّلَةِ بين الفَلْسَفَة والدِّينِ بحكايةِ الصديقين (أبسال) الذي كان يميلُ للزهدِ والتصوّف، و(سلامان) الذي كان فقيهًا في الدِّين ويميلُ إلى الاختلاطِ بالنَّاس، واللذان كانا يعيشان في الجزيرةِ العامرِة بالسُّكانِ التي كانت قريبةً من جزيرة (حيّ بن يقظان)، ويرتحلُ (أبسال) إلى جزيرةِ حيّ لكي ينعَزِل، وهناك يلتقيان ويتفاهمان، ويعلِّمُ (أبسال) (حيًّا) الكلام، ثم يتعرَّفُ منه على تأمُّلاتِه وأفكارِه، ويقرِّرُ (حيّ) الذهابَ إلى الجزيرةِ العامرةِ لكي يعلّمَ الناسَ بما عرفَه، ويذهبان بالفعل، وهناك تحدُثُ جملةٌ من المواقفِ الدراميّة -التي صاغَها ابن طُفَيْل ببراعة وإبداع الأديب-، ويقرِّرُ كلاهما العودةَ إلى الجزيرة، كلٌّ منهُما في عُزلَتِهِ وتأمُّلاتِه حتى يتوفَّاهُما الله.
الخلاصـــة:
تعمدني بنصحك في انفرادي ..... وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ..... من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي ..... فلا تجزع إذا لم تعط طاعه
(محمد بن إدريس الشافعي)
أدب الحكمة يُمجد السلوك السوى بين الناس والتى تتلخص فى الصدق ,العدل , ضبط النفس , الرفق بالأخرين والدعوة للتعلم والسعى الى العدالة كذلك التعلم عن طريق الأصغاء للأخرين وأخذ الموعظة , كذلك كيفية التعامل مع المرأة وأحترامها وحبها ..وفى النهاية ستسود كلمة الله. وفى ع صرنا هذا نفتقد الكثير من السلوكيات السليمة ونحتاج للمزيد من القراءة ومن (أدب الحكمة)، أشهر ما قال الإمام الشافعي:
عفّـوا تعفُّ نسـاؤكم في المحرم وتجنَّبـوا ما لا يليـق بمسلم
إن الزِّنا ديْـن فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيْتك فاعلم
إذا ردت أن تحيا سليماً من الردى ودينك موفور وعرضك صينّ
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايباً فدعها وقل يا عين للناس أعين
المصـــادر:
1- أحمد أمين: (الحكمة في الأدب العربي) فيض الخاطر، الجزء الثَّامن. صدر هذا الكتاب عام 1950، ثم صدرت هذه النّسخة عن مؤسسة هنداوي عام 2011.
2- خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب، الجزء الثَّاني. صدر هذا الكتاب عام 1930، ثم صدرت هذه النّسخة عن مؤسسة هنداوي عام 2019.
3- عبير الششتاوي: دراسة موجزة حول رسالة (حي بن يقظان).. لماذا هي درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟
4- توماس كارليل - "علامات العصر" (1829) ؛ الماضي والحاضر (1843) ؛ كتيبات اليوم الأخير (1850(
5- هولواي، جون. حكيم الفيكتوري: دراسات في الجدل. لندن: ماكميلان، 1953 ، ص. 2 ؛ ص 22