طفلة على الهامش
من المجموعة القصصية (يوميات اخصائية اجتماعية)
اللوحة التعبيرية للقصة بريشة الفنانة البحرينية: أمل خالد أمين
في أحد أيام الشتاء القارس، فتحت المدفأة، وفركت كفيَّ بقوة. جلست على منضدتي في الصالة، وأنا أغطي نفسي بملاءة صوفية كبيرة. أحكمت الغطاء على جسدي، وأنا أنتفض من برودة المكان. كنت أحتسي الشاي الساخن بين الحين والآخر، وأنا أقلب محطات التلفاز، من قناة إلى أخرى. لفتت نظري مقابلة تلفزيونية لفتاة عشرينية، تتكلم عن تجربتها في كتابة الرواية.
وجهت جهاز التحكم عن بعد لرفع صوت التلفاز، حيث استحوذت المقابلة على جميع حواسي. مصادفة غريبة أن أجدها الآن على الشاشة، تلميذتي الصغيرة (فاتن نبيل)، كانت متميزة في التعبير الكتابي. أتذكرها جيداً.. طفلة حساسة ومسالمة.
جذب انتباهي الحوار الذي دار بينها وبين المذيعة؛ كيف بدأتِ رحلة الكتابة؟ من الذي شجعك؟ ما هو شعورك وأنت تقدمين للقراء إصدارك الأول؟ لمن تقدمين هذا العمل؟
قالت (فاتن):
- أهدي إصداري الأول إلى مرشدتي، الأستاذة (ميساء جاسم). أتمنى أن ألتقي بها بعد كل هذه السنوات.
خفق قلبي وأنا أستمع إلى الحوار، وشعرت بعيني تترقرقان بالدموع.
تأملت (فاتن) الشاشة وهي تخاطب المشاهدين:
- يسعدني أن أنظم حفل تدشين إصداري الأول، روايتي (دمعة في مهب الريح)، في النادي الثقافي الأدبي، غداً، الخامس عشر من شهر شباط، في الساعة الثامنة مساء. هذه دعوة للقراء، ودعوة خاصة لأستاذتي الفاضلة (ميساء جاسم)، أتمنى أنها تسمعني الآن.
تهللت أساريري، وشعرت بالسعادة تعتريني. كم أنا مسرورة من أجلها. لقد حققت حلمها أخيراً، وناضلت للوصول إليه. يا لها من فتاة طيبة ووفية، لا تزال تتذكرني، ولم تنسني. تبقى يوم واحد على موعدي المنتظر. لابد أن أحضر حفل توقيع كتابها الأول. كم أنا فخورة بها.
بعد إنهاء مشاهدتي للمقابلة، توجهت إلى سريري، غطيت جسدي بالملاءة، وأغمضت عيني. عدت بذاكرتي إلى الوراء؛ كيف تعرفت بفاتن، ومتى كان لقائي الأول بها!
كنت قد عينت حينها أخصائية اجتماعية في مدرسة ينابيع النور الابتدائية للبنات، وقتها كنت في الثالثة والعشرين من عمري، كابدت لأمارس مهنتي بإخلاص ومسئولية، بحكم أنني جديدة على هذه المهنة.
لم تكن فرحتي بالوظيفة كبيرة، بسبب وفاة أمي من مضاعفات مرض السكري. كنت وحيدة وحزينة، وأحتاج إلى الاحتواء بعد فقداني أعز إنسانة في الوجود. فلقد كانت القلب الحنون، والحضن الدافئ.
تنهدت بعمق وأنا أستعيد هذه الذكريات. أتذكر حينما توجهت إلى مكتبي في أول يوم لي بالعمل، حيث دخلت إحدى المعلمات وهي تمسك بيد تلميذة.
سألتني:
- هل أنت الأخصائية الاجتماعية الجديدة؟
- نعم.
فوجئت بها تدفع التلميذة أمامي، وهي تقول بنبرة غاضبة:
- كالمعتاد، لم تقم بأداء واجباتها.. مستواها التحصيلي في تدنٍّ مستمر، إضافة إلى أنها تنام في وقت الحصة.
أطرقت التلميذة برأسها أرضاً.
اردفت قائلة:
- لقد كانت تتابعها الأخصائية الاجتماعية السابقة، الأستاذة (سماح)، ولكن يبدو أنه لم يكن هناك تطور في الموضوع.
ثم هتفت وهي تمد يدها لتصافحني ضاحكة:
- آه.. اعذريني.. لم أعرفك حتى بنفسي.. اسمي الأستاذة (غيداء)، معلمة نظام فصل.
صافحتها وأنا أقول بهدوء:
- ميساء جاسم.. الأخصائية الاجتماعية.
- أهلاً بك.. يبدو أنك تعيين جديد.. أتمنى أن ترتاحي معنا.
- أتعشم ذلك.
ثم انصرفت من المكان.
تأملت الصغيرة، اقتربت منها وقلت لها:
- مرحباً.. ما هو أسمك؟
- فاتن نبيل.
- بأي صف أنت؟
- الثالث.
أشرت إليها بالجلوس، ثم جلست أمامها وأنا أتأملها بصمت.
قطعت حبل الصمت سائلة:
- لماذا لا تؤدين واجباتك يا فاتن؟
- لا أستطيع.
- كيف؟ ألا يتابعك أحد ما بالبيت؟
- لا.
- ما السبب؟!
- ابي متوفى.
- وأمك؟
ترددت قليلاً في الإجابة ثم قالت:
- أمي مريضة.. أنا أساعدها في شئون المنزل ورعاية إخوتي.
- أنت ابنة بارة وشجاعة يا فاتن.
رفعت عينيها إليّ ثم قالت بنبرة مليئة بالحزن:
- أمي عمياء يا أستاذة.. تقول لي دائماً بأنني عيناها اللتان ترى بهما الدنيا.
خفق قلبي بأسى، وضعت كفيّ على كتفيها وأنا أقول:
- يؤسفني ذلك، ولكن حمداً لله أن لك أماً يا فاتن. منذ أشهر قليلة توفيت والدتي وكانت بالنسبة لي كل شيء.
رن جرس المنبه ليقطع حبل أفكاري. إنها الرابعة فجراً، ولقد حان موعد الصلاة. أديت فريضتي، وقرأت صفحات من القرآن، ثم عدت إلى فراشي، لأجد نفسي أستعيد ذكرياتي من جديد مع (فاتن).
أذكر بأنني حولتها إلى اختصاصية التربية الخاصة، الأستاذة (رنا)، لعمل اختبار تشخيصي لها، ربما كانت تعاني من عجز أو صعوبة في القراءة أو الكتابة.
كانت تحتاج إلى المتابعة والاحتواء، كما أنها كانت تفتقر إلى الرعاية والاهتمام بالمظهر والنظافة الشخصية.
لقد تحملت (فاتن) مسئولية أم وهي ذات تسع سنوات. احتاجت إلى التشجيع والمتابعة، إلا أنها تحولت إلى أداة للصبر والتضحية، ترعى أخويها الصغيرين، وتساعد أمها الضريرة.
ومن خلال متابعتي لها، تبين أنه ليس لديها صديقات، كن ينبذنها، ويسخرن منها طيلة الوقت، نظراً لهندامها ورائحتها، ويطلقن عليها عبارات وألقاب ساخرة، لذلك شعرت بالوحدة والمهانة والانطواء.
تغيبت (فاتن) في يوم ما، وأخذت زميلاتها يسخرن منها، ويتقززن حتى من الجلوس على مقعدها. كن يطلقن عليها اسم الجرثومة! هذا ما أخبرتني به إحدى زميلاتها بالفصل.
ولكن، لماذا كانت تتلقى هذه المعاملة السيئة؟!
هل لأن مستواها الدراسي متدنٍّ؟!
أم لأنها تتلقى الملاحظات باستمرار من قبل معلماتها؟!
أم لأنها غير مرتبة وكريهة الرائحة؟!
تساؤلات عديدة كانت تراودني.. حتماً من واجبي أن أجد لها تفسيراً.
أثناء متابعتي لسجل الغياب، لاحظت تغيبها عن المدرسة لثلاثة أيام. ما السبب يا ترى؟!
أجريت عدداً من الاتصالات الهاتفية لأرقام متعددة، ولكن دون جدوى. معظم الأرقام مقطوعة.
قررت أن آخذ عنوان سكنها من سجل بيانات الطلبة لعمل زيارة منزلية لها. جلست يومها مع مديرة المدرسة، وشرحت لها ظروفها. طلبت منها الإذن للزيارة، ووافقت.
لقد قررت بأن أكون أماً لها، تماماً كما أحبتني أمي، وملأت حياتي بالدلال والاهتمام والحب. عقدت العزم ألا أتخلى عنها أبداً، مهما حصل.
تقلبت على فراشي، وأنا أتنهد بعمق، ثم عاد شريط الذكريات ينساب إلى عقلي من جديد. أخذت أتجول بسيارتي بين أحياء المنطقة السكنية، وخلال دقائق توقفت أمام باب منزلها. طرقت الباب، وإذا بطفلة صغيرة تفتحه لي:
- مرحباً.. هل أجد فاتن هنا؟! أنا معلمتها.
اختفت الطفلة من أمامي لتركض إلى الداخل، وخلال دقائق حضرت (فاتن)، أمسكت بيدي، واصطحبتني إلى إحدى الغرف.
كان المكان يبدو نظيفاً، يمتلئ هواؤه برائحة بخور رخيصة، أحضرت لي كوباً من الشاي، وجلست إلى جانبي.
تأملتها بصمت، وهي تطأطئ برأسها، سألتها:
- خيراً يا فاتن.. لماذا تغيبتِ عن المدرسة؟ لقد قلقت عليك.
تنهدت ثم هزت كتفيها قائلة:
- لا أرغب في الذهاب إلى المدرسة.
- هل جننت؟ ولم؟
- أختاي الصغيرتان، وأمي، بحاجة إليّ.
- صغيرتي.. أنت تقومين بمجهود جبار، تشكرين عليه، ولن يضيع عند الله عز وجل، ولكن ليس على حساب دراستك ومستقبلك.. هذا كثير جداً!
قطع حبل أفكاري، لأستيقظ من فراشي مرتدية خفيّ، ومتوجة ناحية المطبخ. أعددت لنفسي كوباً من الشاي، جلست على منضدة الصالة، وأخذت أحتسيه ببطء. تذكرت مكالمتي الهاتفية مع زميل الدراسة الجامعية (عبد الحميد)، كان (عبد الحميد) وقتها يعمل أخصائياً اجتماعياً في مركز رعاية الأيتام، وكان والده يدير المركز.
- مرحباً يا ميساء كيف حالك؟
- بخير.. عبد الحميد، هل أستطيع أن أقابلك في مقهى (الورود البيضاء)؟
- بالطبع.. سآتي حالاً.
وبعد أن جلسنا عند إحدى الطاولات، سألني:
- ما هي أخبارك مع وظيفتك الجديدة؟
- لدي تلميذة ظروفها الأسرية صعبة.. أريدك أن تساعدني لتقديم العون لها.
قال لي:
- سأبذل قصارى جهدي.. ولكن ما هي قصة هذه التلميذة؟
حكيت له قصتها بالتفصيل، قال لي:
- سأخبر والدي، عله يستطيع أن يساعد أسرتها.
في اليوم التالي، وجدت (فاتن) تقف مع زميلاتها بقاطرة الاصطفاف في الطابور الصباحي، ربتُّ على كتفها وقلت لها باسمة:
- أحسنت بحضورك إلى المدرسة يا فاتن. بوركت يا صغيرتي.. أنت قوية وشجاعة.
ثم استطردت قائلة:
- سأقوم بزيارة صفية لفصلك اليوم خلال الحصة الأولى.
اكتفت بأن تبتسم وتومئ لي برأسها إيجاباً.
بعد توجه التلميذات إلى الصفوف الدراسية، توجهت إلى فصل (فاتن). استأذنت المعلمة بأن أكلم التلميذات لمدة عشر دقائق.
بعد أن انصرفت المعلمة، جلست معهن في جلسة إرشادية جماعية، وتحدثت معهن حول قيمة الاحترام المتمثلة في حسن التعامل مع الآخرين، وعدم الإساءة إليهم، وعدم التنابز بالألقاب.
كانت (فاتن) سعيدة، وهذا يكفيني.
في وقت الفسحة، طلبت منها الحضور إلى مكتبي، أعطيتها كيساً يحوي بعض الأغراض.
سألتني بدهشة:
- ما هذا يا أستاذة ميساء؟
ابتسمت وأنا أقول:
- لا شيء.. هدية بسيطة.
كنت قد وضعت لها بعض الملابس، والعطور، ومستحضرات العناية بالجسم والشعر.
فتحت الكيس وتأملت الأغراض، تهللت أساريرها وهي تقول:
- أشكرك يا أستاذتي.. لم كل هذا؟
قلت لها:
- لا تشكريني يا فاتن.. أنا أمك الثانية.
أعطيتها كيساً أصغر:
- هذا الآخر لوالدتك.
خطفته من يدي وفتحته لتشاهد ما بداخله، دمعت عيناها وهي تقول:
- أشكرك مرة أخرى.
قلت لها:
- عديني يا فاتن بأن تحضري إلى المدرسة، وأن تجتهدي.
مسحت دموعها وهي تقول لي:
- أعدك بذلك.
بعد زيارتي للأستاذة (رنا) ـ اختصاصية التربية الخاصةـ قالت لي:
- التلميذة لا يستدعي تواجدها في حصص الصعوبات، لأنها ذكية وتستوعب. هي تحتاج فقط للمتابعة المنزلية.
بعد متابعتها مع مربية صفها، الأستاذة (غيداء)، أخبرتني بأنها متميزة في التعبير الكتابي، وأن لديها مستقبلاً واعداً في كتابة القصص.
فرحت جداً لفاتن، وشعرت بالسعادة تغمرني. افتقدت هذا الشعور منذ زمن طويل، بعد أن اجتاحت حياتي عواصف الحزن والألم بوفاة أمي.
لاحظت تغييراً في علاقاتها مع زميلاتها؛ لم يعدن يسخرن منها، بعد أن كانت على الهامش، وصرن يسألن عنها باستمرار.
كنت قد عقدت العزم بأن أزورها في الصف بشكل مستمر للملاحظة، وتكثيف الحصص الإرشادية، وهدفي أن أوجه زميلاتها، وأن أسعى لتقوية علاقاتهن بها، وتدريبها على تكوين صداقات وصلات إيجابية.
وفي يوم ما، رن هاتفي المحمول، لأجد مكالمة واردة من زميل دراستي (عبد الحميد).
قال لي يومها:
- ميساء.. لقد سلمت أبي تقارير الزيارة المنزلية، ودراسة بحث الحالة الخاصة اللذين أعددتهما بخصوص الطفلة. لقد وعدني بأن يرسل فريقاً لمنزلها للنظر في موضوع أسرتها، فربما سيكفلهم المركز. لقد أمرني والدي شخصياً بمتابعة الموضوع.
قطع حبل أفكاري صوت جرس الباب. توجهت لفتحه، لأتفاجأ بجارتي (سعاد) تدفعه داخلة إلى المكان وهي تحمل بيديها صينية أطعمة:
- صباح الخير يا ميساء.
- أهلاً يا سعاد.. صباح الخير.
وضعت الصينية على الطاولة، وهي تسحب مقعداً لتجلس عليه:
- كنت جالسة لوحدي بالمنزل.. كما تعلمين؛ ممدوح ذهب إلى عمله، والأطفال انصرفوا إلى مدارسهم، أما الصغير فهو نائم.
ثم هزت كتفيها وهي تقول:
- أعلم أنك لوحدك، لذلك أردت أن أتناول الفطور معك.
ابتسمت قائلة:
- فكرة جميلة، أشكرك يا عزيزتي، ولكنني لا أريد أن أتناول الطعام الآن، فقد اكتفيت باحتساء فنجان من الشاي.
هزت رأسها نفياً وهي تقول:
- لا.. لن أقبل هذا العذر أبداً!
- حسناً.. فليكن.
انضممت إليها، واكتفيت بتناول شريحة من الخبز مع الجبن.
* * *
خلال السابعة مساء، أخذت حماماً منعشاً، وارتديت ملابسي، وضعت بخات من عطري المفضل، ثم حملت حقيبتي الصغيرة متوجة إلى الخارج.
جلست خلف مقود سيارتي، وأدرت المحرك، متوجة إلى النادي الثقافي الأدبي. كنت أشعر بالسعادة والشوق يغمرانني. شعور جميل حقاً بأن ألتقي تلميذتي الصغيرة (فاتن) بعد كل هذه السنوات.
بعد نصف ساعة، أوقفت سيارتي أمام النادي، نزلت منها لأرى العديد من السيارات في الموقف. ومن خلال البوابة الزجاجية الضخمة، لمحت جمهوراً هائلاً من الناس.
دخلت إلى القاعة، ورأيت (فاتن) تقف على منصة التقديم لتلقط عشرات الصور. خطوت إلى أحد المقاعد لأراقبها من بعيد. لقد أصبحت شابة، كم هي رشيقة وأنيقة.
خلال دقائق، سمعت همهمة من الميكرفون. لابد أن حفل التوقيع سيبدأ الآن. جلست (فاتن) على مقعدها بالمنصة، بينما جلس مقدم الحفل على المقعد المجاور لها، وهو يتنحنح قائلاً:
- سيداتي وسادتي الكرام، مساء الخير جميعاً. أهلاً وسهلاً بكم معنا الليلة في النادي الثقافي الأدبي. يسعدنا ويشرفنا تواجدكم معنا اليوم في حفل توقيع رواية (دمعة في مهب الريح)، وهو الإصدار الأول لكاتبة شابة وواعدة، وهي الأستاذة فاتن نبيل. لنرحب بها جميعاً.
تعالى تصفيق حار من الجمهور تردد في أرجاء القاعة. شعرت بالفرحة تعتريني وأنا أصفق لفاتن بقوة.
علت وجهها حمرة الخجل وهي تقول:
- أهلاً وسهلاً بكم، سيداتي وسادتي الكرام. يسعدني تلبيتكم الدعوة، وتواجدكم معنا هذه الليلة. هذا شرف كبير لي، وذلك إنما يدل على حرصكم واهتمامكم بما يجري في الساحة الأدبية.
صمتت للحظة ثم قالت:
- هذه هي تجربتي الأولى في الكتابة، وأنا سعيدة بأنني حققت حلمي، ووفقت في إصدار روايتي (دمعة في مهب الريح)، أتمنى أن تنال إعجابكم ورضاكم.
بدأ مقدم الحفل بطرح مجموعة من الأسئلة حول تجربتها في الكتابة، ومن ثم يتفاعل معها الجمهور. كانت تجيب بمنتهى اللطف والذوق، تماماً كما عرفتها. كم كانت طفلة لطيفة وودودة.
قطع حبل أفكاري مقدم الحفل وهو يقول:
- والآن، ستتوجه الكاتبة فاتن إلى ركن التوقيع، وندعو الجمهور للحصول على توقيعها.. تفضلوا.
توجهت إلى الركن، وجلست خلف الطاولة ليبدأ الجمهور بالاصطفاف أمامها، كانت تتحاور معهم بأدب وخجل، بابتسامة سعيدة مشرقة، وبعينين تتوهجان بالفرح.
تنهدت بعمق وأنا أتأمل سعادتها. كم كانت هذه الطفلة تستحق هذه السعادة.
حملت حقيبتي الصغيرة، ونهضت من مكاني لأغادر القاعة في وسط الزحام. خطوت ببطء إلى البوابة الزجاجية الضخمة متوجة إلى الخارج.
فوجئت بصوت يهتف:
- أستاذة ميساء!!
التفت ناحية الصوت، لأجدها تقف خلف طاولتها، تنظر إليّ بعينين تترقرقان بالدموع.
تسمرت في مكاني، لأتبادل معها نظرات طويلة.
كان الجمهور يرمقنا بنظرات الحيرة والدهشة.
اقتربت مني، واحتضنتني بقوة.
مسحت على شعرها وأنا أقول:
- بوركت يا صغيرتي.. أنت قوية وشجاعة.