كثرت مصائب الدهر حتى تشربتها أقدس العلاقات الإنسانية وإن كان العنوان يبوح بفحوى الأحداث فهو وليد حالات شاذة كثرت أو ندرت
فالأسرة هي منبر الإنسانية ودرعنا الحصين الذي يقينا صدمات الحياة وتقلب الظروف والروابط العائلية عند أصحاب المبادىء مرصوصة ومتماسكة ومبنية على أسس متينة .
رحل سعيد في الثمانينات تاركا وطنه وهو في مقتبل شبابه باحثًا عن كوة أمل وشعاع نور يعيد البهجة الى حياته المدقعة بالفقر والبؤس
كان غارقًا في اليأس لم يعرف للفرح طعمًا وكان متيقنا ان جغرافية المكان لن تساعده من الوصول إلى شاطىء أحلامه فكل بقاع أرضه أضحت خرائب مطمورة بوحل القتال والتشرذم والطائفية والاحزاب التي فرضت عليه الاندماج بعصبيتها حيث شارك معها بالجرائم التي ارتكبت أثناء الحرب الأهلية..
كان مفلسا إلى الحد الذي دفعه إلى بيع أساور والدته الذهبية التي ورثتها عن جدته كي يتمكن من تغطية مصاريف التأشيرة وتكاليف السفر ..
سعيد الذي تجاهلته السعادة في وطنه خلع شراشف الحزن عنه وارتمى في أحضان احدى الولايات الاميركية المغلفة بالبهرج الخداع ،
دخل دوامة الشغف الأبدي وراح يسابق الرزق غارفا من بحوره ومن مجاريه فمن مارس الاعوجاج لن يتقن الاستقامة .
شهوة المال خنقت قيمه فإنجر إلى أفعال وعادات سيئة ودخل أبواب الثروة غير المشروعة في غضون عامين من غربته ،
وتدفقت الاموال بغزارة إلى عائلته التي زاد جشعها و لم تهتم للمصدر فالجائع الذي يركن أخلاقه على رفوف المصالح لا يهمه مصدر الطعام إن وجد ..
كما قام سعيد بتخبئة مبلغ كبير من المال مع صاحبته التي مضى على معرفته بها قرابة العام ومبلغ آخر مع أقاربه الذين استقبلوه عند وصوله إلى اميركا وعاش معهم فترة وجيزة من الزمن ،
كان ذكاؤه كفيلا بتخفيه لمدة طويلة عن الأنظار في عالم المخدرات المظلم حتى وقع ضحية مكيدة دبرت له من أحد العاملين معه ..
كانت الأدلة محكمة فلم يفلت من السجن الذي مكث فيه خمسة اعوام خرج بعدها ليجد أقاربه قد استولوا على جزء كبير من مدخراته ولم يتبق له الا ما استأمن حبيبته عليه وكان كافيا لبداية نزيهة في مجال الأعمال فأسس شركته الخاصة واقتنع بالرزق الحلال ، فالرصاصة التي تلقاها أيقظت ضميره وزادت وعيه ،
إزدادت متطلبات ذويه خاصة بعد نضوج اخوته الذين تعودوا على الرفاهية المجانية ولم يحرم أحدًا من خيره فأعطى بسخاء جنوني
كان يحلم بتأسيس أسرة سعيدة وبإنجاب الأطفال خاصة بعد أن عاش حياته متنقلا من حبيبة لاخرى
حتى بلغ السابعة والثلاثين من عمره وكرجل شرقي ترسخت فيه العادات البالية عندما قرر الزواج عاد إلى وطنه ليتزوج العروس العفيفة والمثالية "إبنة العائلة "
عاد باحثا عن النقاء الذي فقده وعن الطهر الذي هجره وعن الأصالة التي هربت منه فشاء القدر أن يلتقي ب"دنيا " سقطت بين ذراعيه فسحرها بأسلوبه ولباقته وبكرمه الذي اعمى بصرها وبصيرتها عن حقيقته ،
ثراؤه فاحش لا يقاوم وأحلامها لا تحدها السماء
تزوجا رغم خوف عائلته من فقدان مدرار الذهب الا أنهم رضخوا للأمر الواقع ،
سافرا ورافقهما شقيقه الأصغر او بالاحرى جاسوس العائلة ..عاش معهما في منزلهما الزوجي وشاطرهما بحشريته حتى أدق التفاصيل وكان الحسد والجشع ينمو بداخله كذئب يتربص بفريسته،
طيبة دنيا لم تسمح لها بالاعتراض رغم احساسها بخبثه الدفين لكنها آمنت بقداسة العائلة وحتمية الحياد في العلاقة بين الاخوين ،
أنجبا ثلاثة اطفال وعاشا رغم الاختلاف في التفكير وفي وجهات النظر والتصرفات فدنيا صممت على إنجاح زواجها الذي اختاره لها القدر فتغاضت عن زلاته بعد أن حاولت فاشلة تغيير سعيد ،
كانت قصور مملكتها تتصدع قصرا تلو الآخر فتقوم بترميمها رغم شروخ قلبها التي تزداد ،
سعيد لم يكن الرجل الذي تمنته فطباعه باتت لا تحتمل وقرارته المصيرية تقتل ..
أصبح همها العودة إلى وطنها سالمة معافاة هي واطفالها بعد أن تحول سعيد الى وحش بتصرفاته وردات أفعاله الناتجة عن الغيرة العمياء ..
ربما أحبها لدرجة الجنون وربما إنهيار الاقتصاد وتأثر عمله بتداعياته وربما مخلفات ماضيه الهمجية أصبحت تعبث بتفكيره او ربما قصة ترحيله من قبل دائرة الهجرة التي ظهرت مؤخرا وربما وربما ....
كثرت تحليلاتها كي تخلق له الاعذار لكن عذره كان أقبح من ذنبه عندما حاول خنقها على أثر نقاش حاد سار بينهما عن أخيه حيث حاولت وللمرة الاولى تنبيهه من مخاوفها التي باتت ملموسة ..
تصاعدت النزاعات بين الزوجين واتسعت حدودها فتعذر الصلح ووصلت للطلاق .
لملمت دنيا أحزانها واحتضنت أطفالها ورحلت بصمت إلى الوطن حاملة في خلايا روحها شظايا قسوة الزمن ومرارة الأيام .
مضت أشهر على الفراق ولم يتقبل خسارتها فقد مس رحيلها نرجسيته وكرامته
فعاد معتذرا راجيا منها السماح واعدا مسح الجراح النازفات .
قلبها الطيب والمتسامح كان خارج خارطة النقمة وُعِدت براحة البال وكلامه المعسول كان جواز مرورو أدخلها دوامة القهر من جديد
أهمل سعيد عمله وسلم زمام أموره لأخيه الذي أخذه بريق الدنيا وتملّكه حب المال فاشعل نيران الضغينة بينه وبين أخيه ، لم يكن على قدر المسؤولية التي أوكلت إليه ،
أشهر من الإسراف والتبذير والإفراط في الرفاهية والترف كانت كفيلة بالافلاس المحكم وعليه اتخذت قرارات غيرت منحى حياة سعيد وعائلته كلياً.
باع الأخ المدلل والإنتهازي ما تبقى من تعب سعيد وفر الى دولة مجاورة تاركا أخيه الذي غرق في عوزه وجنونه وعدم تقبله للواقع يصيح ألما وعائلته في مهب الريح ..
كانت إرادة سعيد أضعف من التعايش مع الصدمة فكان الرحيل سبيلا للخلاص من أزمته
لم يتبق من عزيمته شيء يجعله يتشبث بالأرض
هاجر قاطعا جذور عائلته متبرئا حتى من "دنياه"....
إن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند وإن القلوب إذا عميت لم تر إلا الباطل هدفا، والغي سبيلا، والحيلة طريقا لتصل إلى ما تريد ....هذا ما أدركه سعيد و حصد خيبته عندما مد يديه طالبا المساعدة من عائلته...
كان الجشع ناصعا والحقائق صادمة
وما ضره غريب يجهله إنما أوجعه قريب يعرفه ولمن يشتكي إن كان خصمه القاضي .
يتبع .....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق