أُبُوَّة لم تكتمل
———————
كان يونس شاباً في مقتبل العمر عندما قرر السفر إلى الولايات المتحدة الاميركية لمتابعة دراسته الجامعية حاملا معه احلاما بحجم الكون تنتظر أن تبصر النور ومفعما بإرادة السعي والعطاء
حاله كحال أي شاب عربي كسدت طموحاته في متاجر الوطن وأثقل كاهله العوز ...لم يوقفه وجع والديه من مرارة الفراق ولم يشعر بالندم فمخطط السفر لم يفارق ذهنه برهة
أتم معاملات الهجرة وحصل على تأشيرة السفر
وحلق كنسر لا تتسع السماء لفرد جناحاته
كان حمل الرحيل ثقيلا على جسد والدته النحيل خاصة لكونه وحيدها الذي لطالما جعل منزلها روضة من رياض الجنة كيف لا وهو الابن البار والحنون الذي تتمناه كل أم في الدنيا لكن دعواتها وصلاتها رافقت خطواته الواثقة من الرباط حتى مربض الاحلام .
كانت وجهته "بوسطن " عاصمة ماساشوستس وهي احدى أقدم المدن في الولايات المتحدة الاميركية وتعتبر مركزا دوليا للتعليم العالي كونها تضم العديد من الكليات والجامعات العريقة وتعتبر هذه المدينة أيضا رائدة على مستوى العالم في مجال الابتكار وريادة الاعمال
عانقت افكاره تاريخ المدينة وعظمة خريجي جامعاتها وسكب حنينه للوطن في مياه نهر تشارلز حيث كان يقصده يوميا للمشي على ضفافه
ارتاد يونس كلية ادارة الاعمال وكان يرى فجر مستقبله الواعد يبزغ من صرح جامعته
مع الوقت تحرر يونس من ظلمة عزلته الاجتماعية وتأقلم مع حياته الجديدة ومع زملاء الدراسة فأصبح لديه العديد من الاصدقاء من جنسيات مختلفة وشاءت الاقدار أن يلتقي ب " آيمي" الفتاة الجميلة الاميركية الأصل فاشتعلت شرارة الحب بين أضلعه ومن يقف في طريق الحب الذي يدخل قلوبنا دون استئذان ويقلب حياتنا رأسا على عقب
بدأ الشاب المغربي بمواعدة آيمي ووجد فيها نصفه الآخر ..
تدفق العشق في شرايينه حتى قطع أسلاك قدرته على متابعة حياته من دونها
احتلت تفكيره وأمطرت ساعاته سعادة باهتمامها الدائم ..
حب استثنائي جمع حضارتين في قلب واحد وكتب قصيدة عشق تكللت قوافيها بالزواج
لم يكن الوقت مناسبا لكن القرار لم يأت على عجل فقد مضى ثلاث سنوات على معرفته بآيمي
وجاءت "ريم " ثمرة حبهما بعد حوالي السنة من زواج مفعم بالتفاهم والاحترام فكان عليهما الاستعداد لهذه المرحلة الجديدة من حياتهما .
حصلت آيمي على وظيفة في مطار بوسطن "لوجان ايربورت" لدى الخطوط الجوية البريطانية " بريتش ايرويز" و انتقل يونس الى عمله الجديد مؤخرا كبائع للسيارات في احدى المعارض الكبيرة للسيارات المستعملة وكان مالكه من الجنسية اللبنانية يدعى داني وقد هجر وطنه كمعظم اللبنانين أثناء الحرب الأهلية في الثمانينات فأمضى شبابه مغتربا ومعيلا لعائلته في لبنان ولم يفكر يوما بالعودة اليه لهول المآسي التي شهدها خلال الحرب ورافقت ذاكرته يوما بعد يوم وكأنها تحارب النسيان فكان عليه ان يتعايش معها لفترة طويلة .
أحب يونس عمله وأحبه المالك والجميع فهو المخلص المتفاني الذي يعمل بحيوية واندفاع دائم لتقديم الافضل ...رأى رب عمله فيه الاخ الحنون والصديق الكتوم فراح يسقي آماله مساندة ويهمس في أذن خوفه ( أنا هنا ) حُرمت فأُكرمت ...
لم يكن عطفا بل كان إيمانًا بأن الله ارسل اليه السند الذي استحق ثقته ووهبه دفء احضان العائلة البعيدة ..
رافق يونس مديره في رحلاته التجارية وفي المناسبات الاجتماعية وفي عطل نهاية الاسبوع
كانا يغردان في سرب الافكار ذاته ورغم اختلاف العمر تشابهت العقول فكان يسد مسده في غيابه.
حل موسم الاجازات وها هي آيمي تخبر يونس بمكافأتها السنوية تذاكر سفر الى حيث تشاء فاقترح زوجها إمضاء إجازتها هذه السنة في المغرب برفقة ريم فلم يتسنى لوالديه رؤية ابنته الا لاجازة واحدة خلال سنوات فريم بلغت السادسة من العمر وستكون فرحة والدته بها أكبر من الوصف
لكنه امتنع عن مرافقتهما واخبر آيمي بأنه لا يقدر أن يترك رب عمله ( داني ) ففي موسم الاجازات تزداد نسبة المبيعات وتكثر الزبائن وعليه أن يكون بجانبه فلن يدعه يواجه ضغوطات العمل وحده .
سافرت عائلته الصغيرة إلى وطنه الأم الذي خلّف في خاطره حنينا لم ينقطع ..يتنفسه يوميا مع نسيم الصباح وتُخفت إشعاعه وسادة التعب
حلّف زوجته أن تحضر له عبوة من تراب الرباط عند عودتها علها تحمل عطر الأحبة وتخمد شعوره بالحزن الغريب الذي غير ملامح وجهه مؤخرا ..
وداعا آيمي ..وداعا ريم ...وفي عينيه نظرة ارتباك ودمعة صامتة تأبى النزول على خد أتقن الكتمان
هاتف والدته قائلا في حفظكم ورعايتكم ريم ووالدتها ولا تحزني يا أماه ستريني قريبًا ان شاء الله سأعود عندما تصبح بذور احلامي صالحة للعطاء
سأنجب لك أحفادا لن تتمكني من حفظ أسمائهم او احصاء عددهم حاول رسم البسمة على شفاه والدته رغم أن تنهيدة همسها تعكس تشظي فرحتها بلقاء مكتمل
عاد ليغرق في عمله طيلة الاسبوع وكل ما سأله داني عن شحوب لونه لم يكن لديه تبرير رغم أن لسعة الألم تكبر في عينيه ..
حلت عطلة نهاية الاسبوع وكانا منهكين من ضغط العمل فدعاه داني لمرافقته إلى العشاء في المطعم الايطالي المفضل لديه
كان العشاء لذيذا لكن الصمت خيم على تلك الأمسية فشهية الاطباق منعت توابل الاحاديث.
وما ان اكملا طعامهما حتى شعر يونس بضيق في أنفاسه وكأن جدران المكان أطبقت على صدره فطلب من داني المغادرة وفي طريق العودة استهل داني أحاديثه المعتادة أثناء القيادة متجنبا النظر إلى رفيقه كي لا يتشتت انتباهه فآخر ما يفكر فيه تشنج في عضلات الوقت بعد يوم أجرم فيه بحق نفسه
ما رأيك يا يونس ماذا سنفعل غدًا
علينا أن ننتقي وجهة تثلج نيران إرهاقنا لطيلة الاسبوع وتعيد هيكلة حيويتنا للقادم من بعده ..
التفت داني متعجبا لعدم اجابة يونس له فوجده عاجزا عن الحركة والتنفس وكأنه يختنق وقد أصيب بشلل مفاجىء مزق قدرته على النطق فسارع بهلع إلى ركن سيارته إلى جانب الطريق وهو يردد اسم ملاكه الحارس عبثا ويتمتم " يا الله يا الله ..لا بد بأنني أحلم.. إنها هلوسات التعب ..
تحرك يا يونس جاوبني يا صديقي ما حل بك
وقام بالإتصال مسرعا بخدمة الطوارىء كي يرسلوا سيارة الاسعاف فهو لن يتمكن من الوصول بهذه الحالة إلى أقرب مستشفى حيث تبعد عن مكان توقفه أميالا عديدة
كان توتره يفوق إمكانيته على التركيز ..
ماذا أفعل لن احركه فقد يزداد الوضع سوءا
لكنه بات متأكدا بأن الضربة هوجاء وقد سلخت جلد صبره فخرّ يبكي ويدعي بأن تكون قروح هذه الليلة قابلة للاندمال ..
نقل يونس الى أقرب مشفى وما هي الا دقائق معدودة حتى خرج الطبيب مصرحا بأنه لطالما كان ذئب الوقت مخادعا عندما تتعلق الحياة بهذا الحالة المرضية فهو يأتي متخفيًا ويرافقه الموت ...
كان وقع هذا اليقين كالبرق في سماء عينيه حيث شق الدمع طريقه سيولا أغرقت وعيه
رباه ...ما أصعب نقل الأنباء القاتلة
عليّ مكالمة آيمي
وكان وقع الخبر عليها وعلى والديه كالصاعقة
نعم توفي يونس عن عمر يناهز الثلاثين عاما ...قتلته سكتة دماغية ظالمة ..
رتب داني معاملات نقل جثمانه الى المغرب خلال اسبوع تجرع فيه الحزن بالكتمان ...
عاد طاهر القلب محملًا على نعش أحلامه وراحت والدته تزف ملاكها الراحل
"آه يا يونس ما أعمق ألمي سابقت الحياة فسبقتك يا ولدي ...
كم كنت أهاب زيارة هذا الضيف للغرباء وينفطر قلبي لفقدهم ...ما عساني أقول الآن وهذا الضيف اصطحبك قبلي ....
آه يا ولدي تمنيت حفنة تراب تحمل في ذراتها رائحة الوطن وعدت لتروي جغرافية المكان بعطر جسدك المقدس
لترقد بسلام وكف عن مطاردة الاحلام
فامهات العرب يا ولدي جزّت أمومتهن الحكومات العربية وشتت عائلاتهن في بقاع الأرض
وجعلت من الغربة رداء لفلذة اكبادهن
لا خيار لهم فطعم الغربة أقل مرارة من الجوع والذل .....
" رحلت قبل أن أخبرك بأني سأنجب يونس الصغير ولم يعد للمفاجاة طعما بعد الرحيل "
هذا ما قالته آيمي قبل غيابها عن الوعي .....
# توفي يونس عام ٢٠٠٨ وعادت آيمي إلى بوسطن برفقة ريم ويونس الصغير وما زالت تعيش فيها .
# قصة حقيقية ختمها القدر بوجع حفر في ذاكرة كل من عرف يونس الأب الحنون الذي خطفه الموت قبل أن يرى طفله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق