رحلة مع اللوكيميا .
في المستشفى ،و انت تعانق الأمل المتسرب ،عبر النافدة في شعاع الشمس ، تغمض عينيك ،و تحاول الهرب بحلم من نفسك أنت ، و قد مضيت هنا وقتا كبيرا بين سرير المستشفى ،لقد صرت تحفظ المستشفى ركنا بركن ،و قسما بقسم ،حتى الأطباء و الممرضين صاروا يعرفونك و تعرفهم ،و تحفظ أسماؤهم عن ظهر قلب
كنزة و جميلة و محمد و عادل و عبد الله
أجل
أجل الكل أصبح صديقا لك ،و هنا في ممرات المستشفى العتيقة ، حفظت حتى وجوه المرضى ،و قد أصبحت صديقا للكل
صديقا
نعم صديقا للكل ، صديق المرض ، و صديق المرضى و صديق الأطباء و الممرضين ، جميل جدا ،ان تعلن تثقتك بهم ،و جميل جدا ،أن تحاورهم بفلسفتك الرشيدة أحيانا و حتى بتلك التفاهات ،منك ،لكنهم بإهتمام يسمعون لك ،و حتى في لحظات ضعفك ،يكونون بجانبك ،بلحظات الهستيريا و في فصول بكائك الطويلة ،
مطر
نعم مطر أصبحت دموعك ، بدون جفاف و لكنها قد جفت ،و لازالت تبحث لها عن غمام و عن فصل طويل ،فصل الخوف
نعم فصل الخوف ،الذي لا يحتد ،بالرغم من ذاك الأمل الخفي الذي يراودك في بعض اللحظات المسروقة من زمن الفرح و من زمن منسي ،لعل ذكرى من كتاب و من أيام قد مرت ،تسلط الضوء على وجهك ،فتحيا على هذا الأمل ،أمل تتشتبت به و تريد الوصول إليه بكل ما تبقى منك من قوة .
تصارع ، تقاوم ، تحارب ، و تتعود على الإبتسام
صلاة
نعم صلاة ،و أنت في قمة المرض ،دائما الله بجانبك و بجانبك قرآن كريم تتلوا بعضا من آياته ،للتذكر و لعل صلواتك و دعائك يصل لله ،فتشفى....
الأهل
نعم الأهل ،يعودونك ،و بقربك أمك ،تخفي الوجع و البكاء لتظهر لك وجها مبتسما ،تحضنك و قلبها يخاف أن يفضح قلقها و سر خوفها عليك ،فليس هناك من سيحب لك الخير غير أمك تم أمك و تم أمك....
حبيبتك...
نعم حبيبتك ،التي آتت بالورد و بالحب الذي يعتريها ،لتقبلك و هي تبتسم لك مداعبة ما تبقى من شعرك الذي تساقط جله بالعلاج الكيماوي الطويل
شعرك الذي تساقط و و قد أصبحت أصلع تماما و تغطي رأسك بالطاقية أحيانا و أحيانا أخرى بالشعر المستعار : بيروكا
و قد نسيت أحيانا طعم و حلاوة الحياة و لأنك تمر بوقت طويل من علاج كيماوي قوي و جسدك الضعيف يقاومه لساعات لايام و لربما لسنين
نعم
علاج كيماوي
نعم علاج كيماوي ،للوكيميا في الدم ، ذاك الداء الخبيث السرطاني الذي ألم بك في فرحة الحياة و قلب فصل الربيع ،داء قلب تاريخ حياتك من فرحة و إستقرار لألم و وجع لا يندب ،و حياة أليمة بائسة ،ما بين التنقل المستشفى و المنزل أصبحت تقيم
لا
فعلا لا ،لا بل أصبحت تقيم في المستشفى ،و كأنك في فندق ، و لكن أكل المستشفيات نجس ،في نظرك لا يروق لك ،فعلا ،أنا يا سيدي قد جربته عدة مرات ،لا طعم له ،حتى القهوة لا مذاق لها ،و أكيد بأن أمك قد تعبت كل يوم و هي تهيأ لك أكل بيتي له مذاق خاص تحبه
شهوة
نعم شهوة ،هنا في المستشفى تكثر شهواتك ،فقد تأتيك شهوتك على قطعة من الشكولاتة اللذيذة ل ماروخا ، و قد تحب فنجان من القهوة من المقهى ،و قد تطلب عسل نحل ،و قد تضيق بك نفسك فلا تشتهي شيأ
لما ؟؟؟لا تشتهي
فعلا
لأن العلاج الكيماوي ،يفقدك التوازن و الإحساس في شخصيتك ،يدخلك لدوامات عاتية ملئية بالحروب النفسية و تفكر في الموت
الموت
نعم الموت ،تقترب منك و تفكر بأن آخر شيء و لربما أول شيء قد يحصل لك هو الموت ،و خصوصا ،انك تمر بأخبث الأمراض ، السرطان ،لوكيميا في الدم
لوكيميا
لوكيميا تدخل للأوعية الدموية و تحاربك من صفحات الدم البيضاء
نعم ،لوكيميا ، تفقد وزنك و تصفر عينيك و يصفر لون جلدك ، تصبح و كأنك شبح ،و كميت آتي من القبور و من عواصم الموت ،و من البرزخ ،
تصفر
تدخلك الوساوس القهريةو تحاول عبتا التشبت بالحياة و بلحظات من الشاعرية الجميلة من جنون الحياة ...
نعم
تصفر ،تصبح ورقة خريف بالية ،تكاد تسقط من أعلى شجرة ،و هنا تدخل لأذانك موسيقى فافيلدي في الفصول الأربعة ، تجعلك تتمايل و ترقص و على ضباب الزجاج لنافدة المستشفى ،ترسم فراشة طائرة حالمة ،مرفرة في النور للنور
تنظر للون جلدك و أنت أمام المرايا المهترئة ،تحاول الإبتسام ،بالرغم من أنفك ،و قد أخبرك الطبيب في ذات جلسة كيماوية بأن ما تبقى لك من وقت الحياة إلا ستة أشهر
ستة أشهر
نعم ،ستة أشهر ،لكي تعيش ، لكي تتشبت بالحياة و بكل حذافيرها و جماليتها ، تعود إليك الشهية لكي تلتهم كل شيء ،بالرغم من القيأ المقزز الذي يأخدك يوميا ،و قد تمر ساعات ،تتقيأ في المرحاض ،تذبل
نعم
تذبل ،و قد كنت يوما وردة و إنسان جذاب في جسدك و في شخصيتك ،جذاب يحبك الكل و يحاولون التقرب منك ، لقد كنت شخصية المدينة و حاضرها و مستقبلها ،و شخصية الجامعة و شخصية الفيسبوك في العالم الأزرق ،و الآن مازال لديكك متابعين ،على صفحتك في السوشيل ميديا ،يتابعونك لأنهم عرفوا بأنك من أصحاب الوكيميا و بأن لديك سرطان في الدم ،يتعاطفون معك
نعم
يتعاطفون معك و يدعون لك ،لعل الدعاء تصل أبوابه للسماء و لعل الله يشفيك
هنا
نعم هنا في المستشفى ،تدور الأيام ،و تدور معها ،أنت ،تزداد نحافة ،تزداد إصفرارا و بالرغم من ذلك في الشمس لازالت تدخل من قلب النافدة إلى سرريك ،تلامس يدياك
في يوم
نعم في يوم ، تهدأ جراحك ،و تقفل عينيك و تسترخي مبستسما ،و الكل من حولك
أمك
حبيبتك
أصدقائك
أطباء و ممرضين
تسترخي ،و تفيض نفسك بعد معانات قاسية مع مرض ،و قد مرت فقط تلاثة اشهر على الموعد مع الموت
الموت
نعم الموت ،إنتصر
تبتسم راضيا مطمئنا ،فقد خرجت من هذا العذاب و من هذا المرض للراحة الأبدية
تبكي أمك و تحضنك ،و تبكي حبيبتك و يحزن الكل لك ،ما يسمع فقط سلاما سلاما ،و تسمع الآية القرائنية :
(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ))
و تنتهي من رحلة العذاب و من رحلة اللوكيميا . لا تخف سيتذكرونك بكامل الحب إلى حين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق