دراستى فى صحيفة القاهرة اليوم الإثنين 13 يوليو 2020
وعى الذات والبحث عن الهوية
قراءة فى رواية أيام بغداد لخليل الجيزاوى
د/ شعبان عبد الحكيم محمد
خليل الجيزاوى كاتب قصة ورواية ومقال أدبى ، وله تواجوده الأدبى الجميل على الساحة الأدبية والنقدية ، فهو أديب وناقد ، إضافة إلى ذلك يعمل صحفيا لمجلات عربية عدة ، وعضو مجلس إدارة اتحاد كُتَّاب مصر ، وعضو مجلس إدارة نادى القصة بجمهورية مصر العربية ، وله كثير من المؤلفات نذكر منها فى مجال الرواية : يوميات مدرس البنات ، أحلام عائشة ، الألاضيش ، مواقيت الصمت ، سيرة بنى صالح ، ومن إبداعاته فى مجال القصة القصيرة : نشيد الخلاص ،أولاد الأفاعى ، حبل الوداد ...إلخ ، ورواية أيام بغداد أحدث كتاباته فى عالم الرواية (ط . دار المعارف بمصر عام 2019 )
ورواية أيام بغداد أول عتبات النص الغلاف والعنوان ، ولوحة الغلاف للفنان العراقي محمود فهمي، وتصميم الغلاف للفنانة هاجر علي، ويستقطب الغلاف صورة لامرأة لها نظرة قاسية حزينة ، والعنوان (أيام بغداد) يلتحم باللون الأصفر ، ومعروف عن اللون الأصفر دلالته على الزوال والفتور ، ونظرة المرأة قد تؤخذ على المستوى البعيد المرأة رمز لأمة ( فقد كانت بغداد عاصمة للدولة العباسية ) التى بلغت فتوحاتها شرقًا وغربًا ، واليوم - أقصد زمن الرواية - تمارس طواحين الهواء فى حرب ذات طبل أجوف لامبرر لها سوى العنجهية والحمق الطائش من القيادة تلك الفترة ، وهذه الصورة أيضا تفسر على المستوى القريب من خلال الإهداء إلى ضحى وكريمة وسوزان أجمل بنات العراق وأحلى أيام العمر ، كما قال المؤلف ... فهناك علاقة بين النص ومبدعه ...وأيام عاشها فى بغداد فترة الشباب ومقتبل الحياة ، حيث نضارة الحياة المشاعر ونداوتها ، وإعجابه بكريمة وسوزان ، وحبه لضحى التى التى وجدت فيه فارس أحلامها ، ورغم سفره ظلت متعلقة به ، وراسلته أكثر من رسالة ، ولكن ظروف المجتمع القاسية لدخوله فى حرب طاحنة حالت دون تفعيل هذا الحب بالزواج ، فالحرب دمرت حتى العلاقات الإنسانية الرقيقة ، والتى كان يمكن أن تصنع نسيجًا عربيًّا واحدًا لأكثر من أسرة .
العنوان من البداية يحفز القارىء على قراءة النص ، ليبحث عن دلالة أيام بغداد ، هل المقصود بها أيام بغداد التاريخ والحضارة زمن الدولة العباسية ؟! أم بغداد زمننا المعاصر ؟! أم أن أيام بغداد أيام خاصة للكاتب يسردها على لسان بطل الرواية محمد جمال ...الإجابة عن هذه الأسئلة تكون بعد قراءة الرواية وبالإيجاب للثلاثة معًا ...لنجد سردا يلتحم فيه الروى عن بغداد العراق التاريخ ، وبغداد الحاضر أثناء الحرب مع إيران ، وبغداد فى قلب البطل محمد جمال فترة عمل بها ستة أشهر هناك ... وإن كنت أحتاط فى النظر إلى النص باعتباره وجهين لعملة واحدة (لبطل الرواية والكاتب ) ولكنى أزعم أن هناك كثيرًا من صفات البطل ورحلته لبغداد عام 1983 للعمل فى العراق ، وقتها كان طالبا منتقلا من الفرقة الثانية لغة عربية آداب عيد شمس ( فى الرواية البطل محمد جمال قسم اللغة الإنجليزية فى الكلية نفسها ) وهناك علاقات حبٍّ وإعجاب مع غير واحدة أعتقد ذكرهن بالاسم يؤكد حقيقة هذه الشخصيات ... وأعتقد أن البطل والمؤلف يتفقان فى التعقل والوعى وضبط المشاعر ، والمنطقية فى اتخاذ القرار ...فيعيش البطل لحظات من التوتر والتردد للعودة إلى بغداد ، رغم كل وجود أجمل حافز (هو الحب ) ومن فتاة أحبته بصدق وأفصحت عن هذا الحب فى أربع رسائل متوالية جاءت فى نهاية الرواية ، تفيض شوقًا ولوعة .
البحث عن الزمن المفقود زمن الحضارة العربية فى عهد هارون الرشيد ، حضارة كان مقرها بغداد إحدى غايات النص ، وكان يمكن لأحفاد هارون أن يكملوا حلقة الحضارة بعد ما يزيد عن ألف عام ، ولكن واأسفاه ! ...أضاعت قيادة البلاد حلقة التواصل مع هذه الحضارة بالدخول فى حرب لاقيمة ولا مبرر لها ، حرب طاحنة دمرت المجتمع ، استشهد كثير من الرجال ، وزعزعت الاقتصاد ، وأثرت على المنطقة برمتها ، وقد برهن الواقع بعبثية هذه الحرب ، حين أعلن صدام حسين نفسه التنازل عما أخذه من أرض جيرانه الإيرانيين ، وفى الرواية نجد صوت الحكمة فى الحاج حسين آل مسلم يرفض الحرب ، لا لاستشهاده ابنه كاظم فقط ، ولكن بمبرر أقوى (الحرب تكون على العدو الحقيقى (إسرائيل ) من سلب فلسطين (ص 177) وامتدادًا لهذا الموقف مدح ( الحاج حسين ) قرار الرئيس السادات بالسلام " رئيس زين ، الحرب دمار يا ولدى ، الحرب نيرانها تأكل الشباب ، أقسم لك أننى أحب السادات لأنه أوقف الحرب ( ص 190 )
تدور هذه الرواية عن بحث الذات عن هويتها ، على المستوى الشخصى فى شخصية محمد جمال ، وعلى المستوى العربى فى اندحار هذه الذات ، نتيجة الضياع الاقتصادى والفقر المدمر الذى يفتح فاه ، ويجعل الحياة متعبة سقيمة ، شخصية محمد وأترابه ( رمز لجيل ) شخصيات مطحونة من الداخل ، يمارسون أعمالًا لا تتناسب مع مستواهم العلمى والأدبى ، مقابل أجر زهيد لا يسمن ولا يغنى من جوع ، فمحمد بطل الرواية نموذج لهذا الجيل عمل فى مقهى ، وعمل فى ملهى ومع كهربائى (يكسِّر له مكان توصيلات الكهرباء ) كلها بأجور تافهة ... وعندما اتجه هؤلاء الشباب إلى خارج بلادهم ، محاولين الارتقاء بمستواهم الاقتصادى ، مارسوا مهنًا لا تليق بكثير منهم ، وعندما فكر بعضهم فى حياة الاستقرار والتعايش بنَفَسٍ طويل مع المجتمع الآخر ( من خلال الحب والزواج ) كانت النتيجة الموت ( عماد نموذج لهم فى الرواية حين تعشَّق امرأة وجاوبته الغرام ) وسحب جواز السفر والذهاب إلى الجبهة لبعضهم ( مجدى نموذج لهم فى الرواية) كل هذا نتيجة حرب عبثية أشبه بأسطورة سيزيف ، الذى يحمل الصخرة فى صورة عبثية ، كلما صعد بها، سقطت الصخرة عليه وهوى معها ، وبدأ إعادة المحاولة من جديد...هذه الحرب كانت سببًا فى انفصام عرى علاقات اجتماعية كبيرة بين هذا المجتمع ومجتمعات أخرى ، لذا حرص محمد جمال أن يضبط مشاعره ، حتى لا تكون نهايته الذهاب إلى الجبهة فى حرب لا معنى لها ... قد يفقد حياتها ثمنًا لذلك ... ذات مصدعة فى الداخل والخارج ... هذا ما يؤكده باقى الشخصيات المصرية ( عادل وأخوه حسين والحاج جبر ويوسف ...) حددت علاقتها بهذا المجتمع بعلاقة المصلحة ( جمع المال ) والسلام ، بعد ضياعها فى مجتمعها الأصل لضياعها اقتصاديًّا .
هكذا تروى الرواية لتصدع الذات فى المنطقة ، وضياع الإنسان المصرى فى مجتمعه وخارج مجتمعه ، وقد أشار إلى هذا الدكتور يوسف نوفل فيما ورد على الغلاف الخلفى للرواية ، حين ذكر " نقفُ أمام أنماط من الشخصيات المطحونة المقهورة التي تشعرُ بالهزيمة، بل تسكنُهَا الهزيمة، والمنطلقة والفارة من شظف العيش إلى مرارة الاغتراب والشقاء والمعاناة والقهر والهزيمة النفسية، في مغامرة البحث عن الرزق في بلد تكتوي بنار الحرب الهوجاء، وتُعاني فقدان أبنائها في فوهات المدافع، وأتون المعارك، فتحاولُ الاستعاضة عن أبنائها بأبناء غيرها، ومن ناحية أخرى بلد تُعاني الضعف الاقتصادي، فتضحي بأبنائها، وتلقي بهم "بدائل" عمّن ألتهمتهم الحرب في العراق، لقمة سائغة في براثن الموت، وهذه المقايضة غير العادلة، وغير الأمينة تزدادُ مأساويتها حين نرى آثارها السوداء تحصدُ البشر".
وجاء تعبير الكاتب عن تصدع هذه الشخصيات فى لغة أسيانة مؤلمة ، ترثى لحالهم فى أسى ، إنهم يهبُّون فرارًا من وطنهم من أجل لقمة العيش المرَّة ، فى بلد تضيع فيه قيمة الإنسان ، ويتزعزع استقراره ، يقول " هذه الطوابير المترنحة ذات الوجه المتربة المتعبة ، نداهة جديدة ، نداهة جديدة أطلقت صفيرها ، فلبت هذه الطوابير النداء ، وها هم يسافرون على أرجلهم المتعبة ، ومنهم من يموتون ميتة رخيصة ، فيعودون فى صناديق على ظهورهم فى صناديق الموت المغلقة ، فقط ليدفنوا فى ترابها المقدس ، أى وطن هذا ؟! وأية أرض مقدسة هذه ؟! (ص 6)
هذه اللهجة الحزينة بدت ملتاعة فى التعبير عن ضياع الشباب بهذه الصورة بداية من ركوبه السفينة كما ذكرنا ، ثم بعد رحيله فى السفينة ورؤيته لهذه الأعداد المذهلة " تفحص الوجوه المسافرة منزعجًا ، وراح يسأل نفسه بمرارة : هل ضاقت مصر بأولادها ؟! أم تزوجت برجل آخر غير أبيهم ، فطرد أولاد الزوجة الأولى للخارج ، ليواجهوا الموت البارد فى بلاد الغربة والوجع ( ص 19)
وظل تألم الكاتب بعد ذلك خاصة فى اللحظات المزلزلة كموقف شحن جثة صاحبه عماد ، وعندما التقى بضابط مباحث أمن الدولة كانت وصيته " العراقيون مهتمون بالحرب ، ولا أحد يهتم بالمصريين " ... فهناك مسكوت عنه ( اهتموا بالمصريين ) ...إلخ .
تُروى الأحداث بضمير المتكلم على لسان محمد جمال الراوى المشارك فى الأحداث ، بل هو أكثر الشخصيات تواجدًا فى فضاء النص وعلاقات مع غيره ، ووصف أستاذنا الدكتور يوسف نوفل السرد فى الرواية بالسلاسة ، فالسارد يروى بكل بساطة وتلقائية فنية ، فلا يشعر القارىء بملل ، ولا تصدع ، ولا نجد غموضًا معميًّا ، ولا فذلكة مفرغة ، إنها الروى السهل الممتنع ، الذى يخيل إليك لساطته يمكن محاكاته ، ولكنه محمل بالدلالات المتعددة ، والقدرة على تصوير المواقف ورسم ملامح الشخصيات ، ونبض الواقع بصورة نابضة حيّة ، مع رشاقة التنقل من موقف لموقف ، ومن مكان لآخر ، وكأن الراوى يحمل عدسة ، ووظيفته التنقل بها ، وتركها لتنقل لنا ما يريد سرده ، وهذا يعكس مدى حياديته وعدم التدخل – بصورة متعنتة - فى حركة السرد ، فمثلا يروى عن بداية رحلته بعد وصوله العراق متوجهًا إلى سكن ابن خالته عادل فى سمراء :
فى ميدان سيدى على الهادى وجد جمعًا من المصريين ومحلا للكباب والكفته وآخر للفراخ ...وسمع النادل يقول :
تكة وكباب ...أبو الشباب اتفضل
تكة وكباب ....أبو الشباب ادلل
ورأى يافطة كبيرة مكتوب عليها : مطعم أبناء طنطا للفول والطعمية ... وعلى المقهى كان التلفزيون يذيع النشرة جيش قادسية صدام حسين يملأ الشاشة ...وتترد الأغنية : العراق ... العراق ... احنا مشينا للحرب ... ومن بعيد رأى نساء ملفوفات بملاءات سوداء يغادرن المسجد لا يظهر سوى بؤبؤ أعينهن ...إلخ
وعى الذات والبحث عن الهوية
قراءة فى رواية أيام بغداد لخليل الجيزاوى
د/ شعبان عبد الحكيم محمد
خليل الجيزاوى كاتب قصة ورواية ومقال أدبى ، وله تواجوده الأدبى الجميل على الساحة الأدبية والنقدية ، فهو أديب وناقد ، إضافة إلى ذلك يعمل صحفيا لمجلات عربية عدة ، وعضو مجلس إدارة اتحاد كُتَّاب مصر ، وعضو مجلس إدارة نادى القصة بجمهورية مصر العربية ، وله كثير من المؤلفات نذكر منها فى مجال الرواية : يوميات مدرس البنات ، أحلام عائشة ، الألاضيش ، مواقيت الصمت ، سيرة بنى صالح ، ومن إبداعاته فى مجال القصة القصيرة : نشيد الخلاص ،أولاد الأفاعى ، حبل الوداد ...إلخ ، ورواية أيام بغداد أحدث كتاباته فى عالم الرواية (ط . دار المعارف بمصر عام 2019 )
ورواية أيام بغداد أول عتبات النص الغلاف والعنوان ، ولوحة الغلاف للفنان العراقي محمود فهمي، وتصميم الغلاف للفنانة هاجر علي، ويستقطب الغلاف صورة لامرأة لها نظرة قاسية حزينة ، والعنوان (أيام بغداد) يلتحم باللون الأصفر ، ومعروف عن اللون الأصفر دلالته على الزوال والفتور ، ونظرة المرأة قد تؤخذ على المستوى البعيد المرأة رمز لأمة ( فقد كانت بغداد عاصمة للدولة العباسية ) التى بلغت فتوحاتها شرقًا وغربًا ، واليوم - أقصد زمن الرواية - تمارس طواحين الهواء فى حرب ذات طبل أجوف لامبرر لها سوى العنجهية والحمق الطائش من القيادة تلك الفترة ، وهذه الصورة أيضا تفسر على المستوى القريب من خلال الإهداء إلى ضحى وكريمة وسوزان أجمل بنات العراق وأحلى أيام العمر ، كما قال المؤلف ... فهناك علاقة بين النص ومبدعه ...وأيام عاشها فى بغداد فترة الشباب ومقتبل الحياة ، حيث نضارة الحياة المشاعر ونداوتها ، وإعجابه بكريمة وسوزان ، وحبه لضحى التى التى وجدت فيه فارس أحلامها ، ورغم سفره ظلت متعلقة به ، وراسلته أكثر من رسالة ، ولكن ظروف المجتمع القاسية لدخوله فى حرب طاحنة حالت دون تفعيل هذا الحب بالزواج ، فالحرب دمرت حتى العلاقات الإنسانية الرقيقة ، والتى كان يمكن أن تصنع نسيجًا عربيًّا واحدًا لأكثر من أسرة .
العنوان من البداية يحفز القارىء على قراءة النص ، ليبحث عن دلالة أيام بغداد ، هل المقصود بها أيام بغداد التاريخ والحضارة زمن الدولة العباسية ؟! أم بغداد زمننا المعاصر ؟! أم أن أيام بغداد أيام خاصة للكاتب يسردها على لسان بطل الرواية محمد جمال ...الإجابة عن هذه الأسئلة تكون بعد قراءة الرواية وبالإيجاب للثلاثة معًا ...لنجد سردا يلتحم فيه الروى عن بغداد العراق التاريخ ، وبغداد الحاضر أثناء الحرب مع إيران ، وبغداد فى قلب البطل محمد جمال فترة عمل بها ستة أشهر هناك ... وإن كنت أحتاط فى النظر إلى النص باعتباره وجهين لعملة واحدة (لبطل الرواية والكاتب ) ولكنى أزعم أن هناك كثيرًا من صفات البطل ورحلته لبغداد عام 1983 للعمل فى العراق ، وقتها كان طالبا منتقلا من الفرقة الثانية لغة عربية آداب عيد شمس ( فى الرواية البطل محمد جمال قسم اللغة الإنجليزية فى الكلية نفسها ) وهناك علاقات حبٍّ وإعجاب مع غير واحدة أعتقد ذكرهن بالاسم يؤكد حقيقة هذه الشخصيات ... وأعتقد أن البطل والمؤلف يتفقان فى التعقل والوعى وضبط المشاعر ، والمنطقية فى اتخاذ القرار ...فيعيش البطل لحظات من التوتر والتردد للعودة إلى بغداد ، رغم كل وجود أجمل حافز (هو الحب ) ومن فتاة أحبته بصدق وأفصحت عن هذا الحب فى أربع رسائل متوالية جاءت فى نهاية الرواية ، تفيض شوقًا ولوعة .
البحث عن الزمن المفقود زمن الحضارة العربية فى عهد هارون الرشيد ، حضارة كان مقرها بغداد إحدى غايات النص ، وكان يمكن لأحفاد هارون أن يكملوا حلقة الحضارة بعد ما يزيد عن ألف عام ، ولكن واأسفاه ! ...أضاعت قيادة البلاد حلقة التواصل مع هذه الحضارة بالدخول فى حرب لاقيمة ولا مبرر لها ، حرب طاحنة دمرت المجتمع ، استشهد كثير من الرجال ، وزعزعت الاقتصاد ، وأثرت على المنطقة برمتها ، وقد برهن الواقع بعبثية هذه الحرب ، حين أعلن صدام حسين نفسه التنازل عما أخذه من أرض جيرانه الإيرانيين ، وفى الرواية نجد صوت الحكمة فى الحاج حسين آل مسلم يرفض الحرب ، لا لاستشهاده ابنه كاظم فقط ، ولكن بمبرر أقوى (الحرب تكون على العدو الحقيقى (إسرائيل ) من سلب فلسطين (ص 177) وامتدادًا لهذا الموقف مدح ( الحاج حسين ) قرار الرئيس السادات بالسلام " رئيس زين ، الحرب دمار يا ولدى ، الحرب نيرانها تأكل الشباب ، أقسم لك أننى أحب السادات لأنه أوقف الحرب ( ص 190 )
تدور هذه الرواية عن بحث الذات عن هويتها ، على المستوى الشخصى فى شخصية محمد جمال ، وعلى المستوى العربى فى اندحار هذه الذات ، نتيجة الضياع الاقتصادى والفقر المدمر الذى يفتح فاه ، ويجعل الحياة متعبة سقيمة ، شخصية محمد وأترابه ( رمز لجيل ) شخصيات مطحونة من الداخل ، يمارسون أعمالًا لا تتناسب مع مستواهم العلمى والأدبى ، مقابل أجر زهيد لا يسمن ولا يغنى من جوع ، فمحمد بطل الرواية نموذج لهذا الجيل عمل فى مقهى ، وعمل فى ملهى ومع كهربائى (يكسِّر له مكان توصيلات الكهرباء ) كلها بأجور تافهة ... وعندما اتجه هؤلاء الشباب إلى خارج بلادهم ، محاولين الارتقاء بمستواهم الاقتصادى ، مارسوا مهنًا لا تليق بكثير منهم ، وعندما فكر بعضهم فى حياة الاستقرار والتعايش بنَفَسٍ طويل مع المجتمع الآخر ( من خلال الحب والزواج ) كانت النتيجة الموت ( عماد نموذج لهم فى الرواية حين تعشَّق امرأة وجاوبته الغرام ) وسحب جواز السفر والذهاب إلى الجبهة لبعضهم ( مجدى نموذج لهم فى الرواية) كل هذا نتيجة حرب عبثية أشبه بأسطورة سيزيف ، الذى يحمل الصخرة فى صورة عبثية ، كلما صعد بها، سقطت الصخرة عليه وهوى معها ، وبدأ إعادة المحاولة من جديد...هذه الحرب كانت سببًا فى انفصام عرى علاقات اجتماعية كبيرة بين هذا المجتمع ومجتمعات أخرى ، لذا حرص محمد جمال أن يضبط مشاعره ، حتى لا تكون نهايته الذهاب إلى الجبهة فى حرب لا معنى لها ... قد يفقد حياتها ثمنًا لذلك ... ذات مصدعة فى الداخل والخارج ... هذا ما يؤكده باقى الشخصيات المصرية ( عادل وأخوه حسين والحاج جبر ويوسف ...) حددت علاقتها بهذا المجتمع بعلاقة المصلحة ( جمع المال ) والسلام ، بعد ضياعها فى مجتمعها الأصل لضياعها اقتصاديًّا .
هكذا تروى الرواية لتصدع الذات فى المنطقة ، وضياع الإنسان المصرى فى مجتمعه وخارج مجتمعه ، وقد أشار إلى هذا الدكتور يوسف نوفل فيما ورد على الغلاف الخلفى للرواية ، حين ذكر " نقفُ أمام أنماط من الشخصيات المطحونة المقهورة التي تشعرُ بالهزيمة، بل تسكنُهَا الهزيمة، والمنطلقة والفارة من شظف العيش إلى مرارة الاغتراب والشقاء والمعاناة والقهر والهزيمة النفسية، في مغامرة البحث عن الرزق في بلد تكتوي بنار الحرب الهوجاء، وتُعاني فقدان أبنائها في فوهات المدافع، وأتون المعارك، فتحاولُ الاستعاضة عن أبنائها بأبناء غيرها، ومن ناحية أخرى بلد تُعاني الضعف الاقتصادي، فتضحي بأبنائها، وتلقي بهم "بدائل" عمّن ألتهمتهم الحرب في العراق، لقمة سائغة في براثن الموت، وهذه المقايضة غير العادلة، وغير الأمينة تزدادُ مأساويتها حين نرى آثارها السوداء تحصدُ البشر".
وجاء تعبير الكاتب عن تصدع هذه الشخصيات فى لغة أسيانة مؤلمة ، ترثى لحالهم فى أسى ، إنهم يهبُّون فرارًا من وطنهم من أجل لقمة العيش المرَّة ، فى بلد تضيع فيه قيمة الإنسان ، ويتزعزع استقراره ، يقول " هذه الطوابير المترنحة ذات الوجه المتربة المتعبة ، نداهة جديدة ، نداهة جديدة أطلقت صفيرها ، فلبت هذه الطوابير النداء ، وها هم يسافرون على أرجلهم المتعبة ، ومنهم من يموتون ميتة رخيصة ، فيعودون فى صناديق على ظهورهم فى صناديق الموت المغلقة ، فقط ليدفنوا فى ترابها المقدس ، أى وطن هذا ؟! وأية أرض مقدسة هذه ؟! (ص 6)
هذه اللهجة الحزينة بدت ملتاعة فى التعبير عن ضياع الشباب بهذه الصورة بداية من ركوبه السفينة كما ذكرنا ، ثم بعد رحيله فى السفينة ورؤيته لهذه الأعداد المذهلة " تفحص الوجوه المسافرة منزعجًا ، وراح يسأل نفسه بمرارة : هل ضاقت مصر بأولادها ؟! أم تزوجت برجل آخر غير أبيهم ، فطرد أولاد الزوجة الأولى للخارج ، ليواجهوا الموت البارد فى بلاد الغربة والوجع ( ص 19)
وظل تألم الكاتب بعد ذلك خاصة فى اللحظات المزلزلة كموقف شحن جثة صاحبه عماد ، وعندما التقى بضابط مباحث أمن الدولة كانت وصيته " العراقيون مهتمون بالحرب ، ولا أحد يهتم بالمصريين " ... فهناك مسكوت عنه ( اهتموا بالمصريين ) ...إلخ .
تُروى الأحداث بضمير المتكلم على لسان محمد جمال الراوى المشارك فى الأحداث ، بل هو أكثر الشخصيات تواجدًا فى فضاء النص وعلاقات مع غيره ، ووصف أستاذنا الدكتور يوسف نوفل السرد فى الرواية بالسلاسة ، فالسارد يروى بكل بساطة وتلقائية فنية ، فلا يشعر القارىء بملل ، ولا تصدع ، ولا نجد غموضًا معميًّا ، ولا فذلكة مفرغة ، إنها الروى السهل الممتنع ، الذى يخيل إليك لساطته يمكن محاكاته ، ولكنه محمل بالدلالات المتعددة ، والقدرة على تصوير المواقف ورسم ملامح الشخصيات ، ونبض الواقع بصورة نابضة حيّة ، مع رشاقة التنقل من موقف لموقف ، ومن مكان لآخر ، وكأن الراوى يحمل عدسة ، ووظيفته التنقل بها ، وتركها لتنقل لنا ما يريد سرده ، وهذا يعكس مدى حياديته وعدم التدخل – بصورة متعنتة - فى حركة السرد ، فمثلا يروى عن بداية رحلته بعد وصوله العراق متوجهًا إلى سكن ابن خالته عادل فى سمراء :
فى ميدان سيدى على الهادى وجد جمعًا من المصريين ومحلا للكباب والكفته وآخر للفراخ ...وسمع النادل يقول :
تكة وكباب ...أبو الشباب اتفضل
تكة وكباب ....أبو الشباب ادلل
ورأى يافطة كبيرة مكتوب عليها : مطعم أبناء طنطا للفول والطعمية ... وعلى المقهى كان التلفزيون يذيع النشرة جيش قادسية صدام حسين يملأ الشاشة ...وتترد الأغنية : العراق ... العراق ... احنا مشينا للحرب ... ومن بعيد رأى نساء ملفوفات بملاءات سوداء يغادرن المسجد لا يظهر سوى بؤبؤ أعينهن ...إلخ
شكرا لحضراتكم تواجدكم الراقى كمنبر إعلامى لنشر الثقافة والأدب والفكر ...وتحياتى القلبية لحضراتكم " سحر الشرق " ساحرةقلوب المثقفين والمبدعين
ردحذف