أبي الحبيب
من المجموعة القصصية (يوميات اخصائية اجتماعية)
رنَّ جرس المنبّه بقوة. استيقظت على إثره مذعورة، وكأنَّ مطرقة قد دقت على رأسي بقوة! سللّت يدي من داخل فراشي، وأنا أبحث عنه بضجر، ثم أخرسته بضربة من كفي.
زفرت بضيق وأنا أمسح على شعري بتأفف:
- يا لهذا الصوت المزعج!
التفت حينها إلى الساعة المعلقة على الحائط، ووجدت عقاربها تشير إلى تمام السادسة صباحاً. تثاءبت بقوة وأنا أتمطط بكسل. أزحت الغطاء جانباً، ونهضت. ارتديت خفّي المنزليين، وخطوت إلى دورة المياه.
فتحت صنبور الماء، فتدفق عبره بانسيابية، كما تتصبب معه ذكرياتي؛ حينما كنت أستيقظ كل صباح، ذاهبة إلى مقر عملي. غسلت وجهي وشعرت بالماء يبلل عروقي، وينعش فيها الحياة. أخذت حماماً منعشاً، وحرصت على تفريش أسناني جيداً.
بعد أن نشّفت جسدي، ارتديت معطفي المنزلي لأعود إلى غرفة ملابسي. ارتديت بدلة قطنية مريحة، وجواربا من نفس القماش. أخذت حذائي الرياضي الخفيف، وجلست على طرف السرير. كنت أربط خيوطه بخفة، وأنا أسترجع حديثي الأخير مع الدكتور (فياض)، طبيب الباطنية، في عيادته قبل ثلاثة أيام بالتحديد.
تذكرت حينما كان يتمعن بقراءة نتائج التحاليل المخبرية التي أجريتها. مرت الدقائق ثقيلة كالدهر. كان يقطب حاجبية بشدة، وعيناه الضيقتان تركّزان على قراءتها باهتمام. أخذت أراقبه خلسة، شعرت حينها بالقلق يفترسني، لكنني حاولت أن أبتلعه، وكأنَّ الأمر لا يعنيني.
بعد مرور لحظات من الصمت، عاد بمقعده إلى الوراء، وأنا لا أزال أنظر إليه بنفس النظرات المتوجسة، والتي حرصت جيداً على أن لا أظهرها على وجهي.
تأملني للحظة ثم قطع حبل الصمت قائلاً:
- سيدة ميساء.
بلعت ريقي بتوتر وأنا أقول:
- نعم يا دكتور.
تنحنح بمقعده، ثم استجمع شجاعته وهو يقول:
- سيدتي، يجب أن تعيدي النظر في الاهتمام بصحتك أكثر.
لم أستطع إخفاء قلقي، فسألته بصوت مبحوح:
- لم أفهم!
واصل حديثة قائلاً:
- النتائج غير مطمئنة.. سكر الدم مرتفع لديك، ضغط الدم متذبذب، ونسبة الدهون عالية جداً.
هز رأسه بأسف:
- هذه الأمور قد تتسبب لك في المستقبل بمضاعفات أخرى خطيرة! ربما لا قدر الله....
صمت قليلا وهو يتأمل عيني القلقتين، ثم واصل حديثه وهو يتحاشى النظر إليّ:
- ربما تتلف أعضائك الحيوية! أو أن.....
انقبض قلبي وأنا أسأله بصوت متحشرج:
- أو ماذا يا دكتور؟!
قال بإشفاق:
- أو أن تكوني عرضة للأزمات القلبية والدماغية!
شعرت للحظة بأن قلبي قد توقف عن النبض. قلت بذهول:
- أزمة قلبية ودماغية؟!
لوح بكفية محاولاً تهدئتي:
- سيدتي، الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى، ولكن الأمر متروك لك الآن. لابد أن تعيدي النظر في وضع صحتك أكثر منذ هذه اللحظة.
استطرد قائلاً:
- ممارسة الرياضة يومياً مثلاً، عمل نظام غذائي متكامل.
أطبقت شفتيّ، ولم أنبس ببنت شفة.
ها أنا أخسر صحتي تدريجياً.
لا أملك شيئا في هذه الدنيا، سوى مكتبي القديم والذي كنت أقضي فيه أسعد اللحظات، أبحر في عالم القراءة والكتابة، ذكرياتي مع براعم الماضي، طلابي وأحباب قلبي.. هم عائلتي وأصدقائي.
عشقي الأزلي أصبح الآن في ركن الماضي، في زاوية مشرقة من زوايا عقلي، يزورني بين الحين والآخر، عمري الجميل الذي أفنيته بين أروقة مدرستي، ها هو الآن ينزلق من بين يدي.
طلابي؟ لكَم أشتاق إليهم.. يا ترى أين هم الآن؟!
لقد بذلت جهوداً كبيرة معهم، عطاء لا متناهياً قدمته لهم، متمثلا في توجيههم واحتوائهم، ها قد تركوني الآن لينخرطوا في معترك الحياة، طبيباً ومهندساً ومحامياً.
لقد أفنيت الكثير من وقتي، وعواطفي، وصحتي لأجلهم، وأنا في غاية السعادة، الحياة الحقيقية التي وجدتها بينهم. لقد ذقت طعم متعة العطاء التي لا تضاهيها أية متعة، لا يهم إن كنت متعبة الآن، ما يهم هو أنني أسعدتهم وأدخلت السرور إلى قلوبهم. لكم أشتاق إلى حبي القديم. لقد عشقتهم حتى النخاع.
خطوت إلى مرآتي في الغرفة، وتحسست وجهي، أخذت أتأمل التجاعيد المحفورة فيه. وفي لحظة انسابت إلى عقلي أصواتهم الطفولية وضحكاتهم المتدفقة وهم يتدافعون إلى فصولهم بعد قرع جرس الفسحة، معلناً بداية الحصة الرابعة.
- أستاذة ميساء.. أنت جميلة دائماً! هل ستأتين إلى فصلنا اليوم؟!
شعرت بدمعة ساخنة تسري على وجنتي لتحرقها.. أيام مضت ولن تعود.
أغلقت باب الشقة، لأنزل إلى المنتزه، مصطحبة معي ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي.
أخذت أسير في الممشى، وأشعة الشمس الذهبية تداعب وجهي، لتتوهج وجنتيّ حمرة. نسمات عليلة أملأ بهما رئتاي، ويتخلل الهواء شعري ليتطاير، تتراقص أوراق الأشجار بخفة ورشاقة، وكـأنهن راقصات باليه، والطيور تغني ببهجة. كل ما حولي رائع، والأروع هو القناعة والرضا، ما أجمل أن يتشرب قلبي كل ما منحنا الله إياه في حياتنا، من كرم، وعطاء، ورحمة.
كنت أرى العديد من الناس، أتأمل وجوههم العابرة أمامي، لعلي سأعرف أحداً منهم.
كانوا يتحدثون..
يضحكون..
ويمرحون..
وبعد ساعة من المشي المتواصل، لمحت مقهى أمامي. أيقنت أنني وجدت ضالتي لأرتاح قليلاً. دخلت إليه، وجلست خلف إحدى الطاولات، تناولت ديواني لأقرأ بعض الأشعار. حينها انبعث من المذياع صوت شجي لطالما عشقته في مراهقتي وصباي، صوت عبد الحليم حافظ.
وأثناء تصفحي الديوان الشعري، اقترب مني نادل المقهى ليسألني:
- أتطلبين شيئاً يا سيدتي؟
أجبته:
- فنجانا من القهوة.
ثم أضفت:
ـ من غير سكر لو سمحت.
أومئ برأسه قائلاً:
- حاضرً.
ثم انصرف من المكان.
عاودت قراءة الديوان من جديد.. ولكن فجأة!
عقدت حاجبي بشدة وأنا ألمح رجلاً مسناً يدخل إلى المكان، جالسا على مقعده المتحرك، ترافقه فتاة شقراء جميلة، كانت تدفع المقعد برفق، وكأنَّها تدفع عربة طفل.
كان المسن رجلاً ممتلئاً نوعا ما، أصلع الرأس، يرتدي قبعة سوداء تلائم ملابسه الأنيقة، ونظارته الطبية، ولحيته المهذبة. أما الفتاة فكان على ما يبدو أنها ابنته، خطت مع الرجل المسن إلى إحدى الطاولات. ما أثار إعجابي اهتمامها المبالغ فيه بهذا الرجل، هل هو والدها يا ترى؟
لاحظت ابتسامتها المضيئة أثناء حديثها معه، بدا وقتها سعيداً جداً. رأيتها ترفع قدمه على حجرها لتربط خيط حذائه، وما فاجئني أنها قامت بتقبيلها!
هنا تأكدت بأنه والدها بكل تأكيد.
استفقت من أفكاري بغتة، لأجد النادل يضع الفنجان أمامي:
- عذراً! قهوتك يا سيدتي.
- شكراً.
ارتشفت رشفة من قهوتي الساخنة، لأرى فتاتين تقتربان من طاولة الفتاة والرجل المسن، لتنضمان إليهما، وكأنهما على معرفة مسبقة بهم. لاحظت الشبه الكبير بينهن؛ فلهن نفس الشعر الأشقر، والبشرة البيضاء المتوردة، والعيون الفاتحة.
لمحت النادل يقترب منهم، ثم يعود أدراجه، وبعد دقائق عاد إليهم وهو يحمل صينية عصير برتقال، وضعها على الطاولة، ثم انصرف من المكان.
أخذت إحداهن كأس العصير، ووضعته على شفتي والدها ليتناوله ببطء، وأخذت الأخرى تمسح لحيته برفق بمنديلها الأبيض، وهو يتناغم معها كالطفل.
تأملت الموقف باهتمام، وأنا أشعر بالاستغراب من هذه المجموعة الفريدة؛ اهتمام الفتيات غير العادي بوالدهن، في زمن كثر فيه العقوق والجحود!
ما لفت انتباهي وإعجابي هو اهتمامهن وحرصهن على احتواء هذا الرجل بكل الحب والحنان والدلال، وكأنَّه طفل يجلس بين أمهات ثلاث، رعايتهن له وكأنَّه العالم بأسرة، وكأنَّ لحظات اهتمامهن به لا تقدر بثمن.
شعرت بالعجب من هذا البر!
تساءلت: ماذا فعل هذا الرجل المسن -بحق السماء- ليلاقي كل هذا الحب والبر؟!
نسيت ديواني الشعري، وقهوتي، وأنا أشعر بالحيرة، وبلغ بيّ الفضول مبلغه..
يا ترى، ما قصة هذا الطفل وأمهاته الثلاث؟!
قصة حب عجيبة، تجمع بين الأب وبناته. حكاية عشق نسجتها رقتهن وحنانهن مع والدهن. قصة فريدة، مختلفة هذه المرة، لم تكن كالتي اعتدتنا على سماعها في أغاني عبد الحليم حافظ، أو التي شاهدناها في الأفلام القديمة ذات اللونين الأبيض والأسود، أو في عذوبة ألحان عمر خيرت.
انهن متقاربات بالعمر، في منتصف الثلاثينات تقريبا، شعرت أنني أعرفهن جيداً، الملامح الطفولية الجميلة،
البشرة البيضاء المتوردة، والشعر الاشقر.
إيمان وفاتن ومنال!!
لربما كن إيمان وفاتن ومنال! طالبات المرحلة الابتدائية، المنحدرات من أب سعودي، وأم مغربية!
كانت أسرة رائعة، تنسج حياتها خيوط السعادة والحب والاستقرار، إلا أن دوام الحال من المحال. فلقد تخلت عنهن أمهن؛ وهجرتهن بوقت مبكر جداً.
هذا العش الجميل، حطمته الأم، بعد أن داست عليه بكعب حذائها بكل قسوة! لأنها، وبمنتهى الوضوح، انساقت وراء الشيطان، وانطلقت لتبحث عن أهوائها، ولم يعد يهمها شيء سوى ذاتها الأنانية.
تمعنت في ملامح الرجل جيداً..
عبدالله عارف!!
كان يأتي الى المدرسة، يسابقه حبه لمتابعة بناته والسؤال عنهن. غالباً ما كان يحضر بهيئة متعبة، تأكلها الهموم، حاملاً غموم الدنيا على كتفيه.
يا لقسوة الزمن ومرارة الأيام!
لقد تخلى عنه حبه بكل بساطة، ليجد نفسه مسئولاً عن صغيراته الثلاث. مسئولية صعبة، وكبيرة، لكنه عاهد نفسه ألا يتخلى عنهن أبداً، وسوف يعيش لهن، ومن أجلهن، حيث طوى صفحة زواجه بالأم، ليبدأ قصة جديدة مع صغيراته، حكاية الصبر والتضحية.
عاهد نفسه على عدم الزواج، وقيامه بدوري الأب والأم معاً. وعزم على رعايتهن، من الطفولة، إلى المراهقة، إلى الرشد.
هل يستحق عبد الله عارف إذاً كل هذا البر؟!
كيف لا يستحقه، وقد سخر حياته ينبوع عطاءً لبناته!
سعادتهن وراحتهن مقابل سعادته وراحته.
إلهي! هل يعقل بأن يكون هذا الرجل الذي يجلس أمامي هو فعلا عبد الله عارف!
وهؤلاء الجميلات هن طالباتي الصغيرات بالأمس؟!
أيعقل أن القدر ساق إليّ هذه العائلة من جديد؟!
تمنيت لحظتها بأن أنهض من مكاني لأقترب منهم. ربما كانوا هم فعلاً! كيف لي أن أعرف؟!
إنني في مرحلة الإقدام والإحجام، تأكلني الحيرة.. لا أعرف ماذا أفعل!
استجمعت شجاعتي، وقررت الذهاب إليهم. نهضت من مكاني لأقترب منهم فعلاً. لقد قررت أخيراً الذهاب إليهم، والتحدث معهم، حتى لو لم يكونوا هم.. فليكن ما يكن.
وفي لحظة، رأيت نفسي أقف أمام طاولتهم.
- مرحباً!
التقت عيونهم بي، تتساءل نظراتهم عمن أكون، ردوا عليّ التحية بمثلها.
أخذت تتداول في عقولهم العديد من الأفكار.
تتساءل أعماقهم:
من هذه المرأة؟! وماذا تريد؟!
قطعت حبل أفكارهم وحيرتهم سائلة:
ـ عائلة السيد عبد الله عارف؟!
تبادلوا نظرات الدهشة، وردت عليّ إحدى الفتيات:
- نعم.. ولكن، من أنت؟
هتفت الأخرى وكأنها تحاول التذكر:
- ألست.. ألست الأستاذة ميساء جاسم؟!
ابتسمت قائلة:
- بلى.
تهللت أسارير الأب، ووجدت في عينيه نظرات الفرح:
- أستاذة ميساء.. لا أصدق!
نهضت الفتيات، وأخذن يصافحنني بحرارة.
سلام واحتضان يمتزج مع الفرح، والاشتياق، والدموع.
ذكريات جميلة من الماضي انبعثت فيها الحياة من جديد.
ما أجملها من لحظة!
دعوني للانضمام إليهم، فانضممت إلى طاولتهم، وقلبي يخفق بسعادة، ويغرد كعصفور يرفرف بجناحيه.
دار حوار طويل بيننا..
ماذا حصل بعد كل هذه السنين؟
ما فهمته أن الفتيات لم يتزوجن، كرّسن حياتهن لرعاية والدهن، وخدمته، اشترين منزلاً جميلاً في العاصمة، وانتقلن إليه حديثاً.
ما أعظمها من تضحية!
سألتهن:
- هل حصل تواصل بينكن وبين والدتكن خلال هذه السنين؟
امتقعت وجوههن، وكأنهن استعدن ذكرى مؤلمة، ثم تبادلن نظرات غامضة.
قطع حبل الصمت والدهن:
- لقد انتقلت أمهن إلى رحمة الله منذ سنين طويلة، بعد اصابتها بمرض الإيدز.
رفعت حاجبي قائلة بأسف:
- إنا لله وإنا إليه راجعون.. يؤسفني ذلك.
سادت لحظة من الوجوم والصمت، تساءلت في أعماقي: هل كان عقاباً من الله؟ خيانتها لزوجها، وتخليها عن بناتها بكل بساطة، من أجل ماذا؟ المال؟؟ والأهواء؟؟
قلت محاولة تغيير دفة الحديث:
- أنا سعيدة جداً من أجلك يا سيد عبد الله. لقد عوضك الله في بناتك.
فعلا ما أجمل البر والعطاء..
الحب والإيثار..
أن تؤمن برد الجميل وأن تسعى لإسعاد الآخرين..
وعادت الضحكات من جديد..
لاسترجاع أيام الدراسة والطفولة الجميلة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق