بقلم الأديبة /حنان فاروق العجمي
صوت رنين جرس بدقات منتظمة يَعلو وسط الصمت والظلام بأرجاء المكان
بالكاد يدخل شعاع ضعيف و خافت لضوء الشمس أشرق فجر يوم جديد فتحت عيناها على صوت دَقَّات مُتلاحقة للمنَبِّه قفزت بسرعة وأغلقته ووقفت بجانب السريرعلى مَضَض وهي ما زالت مُتعَبة
لا تستطيع القيام من الفراش وعلامات الإجهاد تُغَطِّي وجهها ويتألم كل موضع بجسدها المُنهك وما تُعانيه من مجهود يومي شاق لم تَعتَد عليه ولكن لديها مهام ثِقال عليها أن تنهض مبكراً
وتتوجه بسرعة شديدة لغرفة أخيها الصغير لتقوم بإيقاظه و الذي يعجز عن الحركة فقد أصيب بشلل في حادثة مروعة أثناء ذهابه مع والديه لقضاء إجازة الصيف أسرعت تنادي على ابنتها لتستيقظ حتى لا تتأخر عن ميعاد المدرسة وقد ترك لها والديها بعد وفاتهما مسئولية تربية أخيها الصغير المسكين الذي تقوم برعايته أخذت تحدث نفسها عليَّ أن أقوم بتحضير وجبة الإفطار بسرعة شديدة ثم أقوم بمساعدة أخي لارتداء ملابسه ونسرع بالنزول للذهاب للمدرسة وبالفعل أصبحوا مستعدين للرحلة اليومية التي تصعب عليهم كثيراً فالمدرسة تبعد عن منزلهم بمسافة كبيرة بالكيلو مترات تحتاج للذهاب إلى وسيلة مواصلات عامة و لا يمكنها أن تتركهم
عليها أن تقوم بإيصالهم للمدرسة ولكنها لم تعتد على ذلك كان لديهم سيارة خاصة يمتلكها زوجها وسائق لإيصالهم لكل مكان يُرِيدون الذهاب إليه ولكن شاء القدر وانقلبت دُنياهم رأساً على عقب لم تَعُد هناك حياة مُستقرة أو حتى منزل آمن ولم يَعُد هناك سيارة لتأمين انتقالهم وازداد الوضع سوءاً حيث أرسل إليها مالك الشقة الصغيرة التي تقطن بها يُعلمها بإخلاء الشقة لامتناع زوجها عن دفع الإيجار وعدم تجديد عقد الإيجار حيث يتم تجديده كل ثلاث سنوات تحوَّلت حياتها إلى كابوس هجرها زوجها ترك ابنته الصغيرة لتُرَبِّيها وحدها وضرب بعشرتهم الطويلة عرض الحائط وبكل أنانية ذهب ليعيش حياة جديدة بالإضافة إلى ذلك تَحَمُّلها عبء مسئولية أخيها الصغير بعد وفاة والديها بحادث السير و الذي كان بمثابة صدمة كبيرة أصبحت لا تستطيع الإنفاق
على ابنتها الصغيرة تركها زوجها بدون منزل أو حتى مبلغ من المال للإنفاق
على ابنتها حتى أنها أصبحت لا تستطيع تدبير المصروفات المدرسية أو شراء المستلزمات الدراسية مضافاً إلى ذلك نفقات الدروس الخصوصية أو حتى الذهاب لطبيب للعلاج لاشئ على الإطلاق لايوجد لديها أبسط الإحتياجات الضرورية واسودَّت الدنيا بعينيها وذاقت ملحها كانت على قدر
لا بأس به من الجمال متوسطة العُمر أنيقة المظهر ورَبَّة منزل لا تعمل تجيد فنون الطهي والحياكة تمتاز بلباقة الحديث والذكاء وقوة الشخصية والطيبة التي تظهر على ملامحها الهادئة ويمكن وصفها بالزوجة المثالية وعاشت حياتها لتربية ابنتها الوحيدة التي هي كل حياتها
أصيبت بالحزن الشديد وأصبحت لا تعلم ماذا تفعل ؟ كيف يمكنها تربية ابنتها؟
تَبَقَّى معها القليل من النقود لا تكفي لتغطية نفقات معيشتها إلا ثلاثة شهور
على الأكثر وكان قد حان وقت سداد المصروفات المدرسية لابنتها كما أن المال الذي تركه لها والدها لتربية أخيها لا يكفي إلا تغطية نفقاته وعلاجه بصعوبة بالغة مرت الأيام عليها ثقيلة وغمرها الحزن وبكل يوم من أيامها يزداد همها أكثر فأكثر فتستيقظ مبكراً كل صباح تبحث عن عمل ولكنها لم تستطع إيجاد عمل مناسب يمكنها من إيجاد الوقت للإعتناء بالطفلين وقدكانت تعيش بمدينة من المدن الجديدة
على أطراف محافظتها وجميع سكانها يمتلكون سيارات لا توجد وسيلة انتقال
إلا داخل المدينة أما عن الإنتقال خارجها فهناك وسيلة عامة للإنتقال للأماكن المختلفة لكنها بمواعيد لا تتناسب
مع مواعيد بداية اليوم الدراسي والوصول مبكراً وحتى إذا قامت باستقلالها لابد
وأن تجد سيارة لإيصالها لمحطة تواجد الحافلات التي تنقلها خارج المدينة
والتي لها مكان محدد يبعد عن المنزل بمسافة كبيرة كما أنها ستتحمل عناء البحث وسط الطريق عن مواصلة أخرى لإكمال الطريق ازدادت معاناتها وتحولت أيامها إلى عذاب ما بعده عذاب هذا غير الوصول بوقت متأخر بعد بدء اليوم الدراسي ظلت هكذا عدة أيام وبيوم ما بنفس الميعاد استعدت للذهاب لمدرسة ابنتها توجهت لمكان الحافلات وقفت بمحطة الإنتظار لإستقلال وسيلة المواصلات المتاحة بذلك الوقت والوحيدة رفعت يدها لرؤية الوقت بساعة ترتديها بمعصمها لقد تأخرت كثيراً وقد كان لدى ابنتها امتحان بذلك اليوم حيث مر ثلاثة أشهر من بداية عام دراسي جديد لابنتها بالصف الثاني بالمرحلة الإعدادية أخذت عيناها تلتفت يميناً ويساراً ماذا تفعل تأخروا كثيراً لم تجد حلاً سوى أن تقوم بتأجير سيارة خاصة لإيصال ابنتها لحضور الإمتحان طلبت السيارة بالفعل ولكنها
لا تعلم هل يا تُرَى سيطلب الكثير
من النقود لقاء هذا المشوار ؟
استقلت السيارة مع ابنتها وظلت شاردة الذهن عيناها على الطريق والسيارات تمر مسرعة أمامها تنظر للأشجار والمارة عبر الطريق بحالة من القلق الشديد والتوتر الذي أصابها بالدوار ارتدت نظارتها الشمسية لتخفي حالتها المنهارة والدموع التي ملأت عينيها وحزنها الشديد للحالة التي وصلت إليها والصدمة التي تعرضت لها من أثر ترك زوجها لها بدون مقدمات
أو أسباب أو خلافات سابقة
كل ما تريده هو الوصول بسرعة لتلحق بميعاد الإمتحان وتؤديه ابنتها بسلام
كانت السيارة التي استقلتها بحالة جيدة
ولكن سائقها لم يُكن سائق مُعتاد فقد كان رجل دَمِث الخُلُق وقد لاحظ قلقها الشديد
على ابنتها وأنها في عجلة من أمرها حيث طلبت منه بشكل يبدو أنه جاف وبلهجة حادة الإسراع بالقيادة و هنا دفعه فضوله
إلى النظر إليها و مراقبتها من خلال المرآة الأمامية بالسيارة لم يحدثه أحد بهذا الأسلوب من قبل أراد أن يعرف قصة هذه السيدة العجولة الجادة والحادة الكلمات التي وجهت إليه جملة مختصرة بصيغة الأمر" أَسرِع لقد تأخرنا كثيراً "
وكانت لا تلتفت إلى أي شئ ويظهر
على ملامحها الوقار وشئ من القلق
وبعض الحزن على وجهها أثارت انتباهه كثيراً بل حَدَّث نفسه إنها سيدة من نوع مختلف لم يقابل مثلها من قبل وقال
في نفسه على كل حال أنا حديث العهد بهذا المجال ولم أعمل سائقاً من قبل لولا ظروفي الصعبة التي لا يعلمها إلا الله وهو عمل شريف وجائز وخاصةً أن نوعية الرُّكاب أُناس على قدر من الإحترام
سأظل صامتاً لن أتحدث إليها رغم أنها أصابَتنِي بشئ من الفضول وأراها حزينة بعض الشئ ولكن دع الخلق للخالق ويكفيني همي وما أنا فيه علي أن أعمل ليل نهار لسداد ديوني التي تراكمت عَليَّ ولأقوم بتأمين عيشة كريمة لعائلتي التي لا ذنب لها
فيما حدث لعملي وقيام شريكي بفض الشراكة بيني وبينه وتوقف شركتي
عن العمل فأنا بحالة لا أُحسد عليها وبالكاد أقوم بتأمين نفقات منزلي
من العمل كسائق على سيارتي الخاصة
فلقد خسرت كثيراً من تصفية الشركة
اقترب الوصول لمكان المدرسة أسرعت بسؤاله عن المبلغ الذي يريده مقابل إيصالهم فأجابها قائلاً ادفعي ما شئتِ كما هو معتاد فاحتارت لبرهة ولكنها قدرت المسافة وأعطته مبلغ مناسب من المال وشكرته ولكنها لا تعلم ماذا سوف تفعل للعودة للمنزل فالمدرسة بمنطقة نائية
ولا يمكنها إيجاد وسيلة مواصلات للرجوع فأسرعت تقول له هل يمكنك أن تأتي بميعاد نهاية امتحان ابنتي ونهاية اليوم الدراسي لتُعيدنا لنفس المكان الذي ركبنا منه وسوف نسلُك نفس الطريق فأجابها بالموافقة وقال لها تحت أمرك واتفق معها على ميعاد نهاية الإمتحان ففرحت كثيراً فليس لديها حيلة غير الإستعانة به وكان هذا هو التصرف الأمثل في مثل حالتها وحمدت الله أنه قد وافق على العودة إليها و إعادتهم وبالفعل نزلت من السيارة وهي بحالة اطمئنان وانتظرت حتى نهاية وقت الإمتحان وأسرعت بالتوجه إلى ابنتها وسألتها ماذا فعلت بالإمتحان وهل أجابت الإجابات الصحيحة فقد حرصت
على الجلوس معها للمذاكرة يومياً
خرجت من باب المدرسة وبالفعل وجدت السائق ينتظرهم بالخارج وأسرعت لاستقلال السيارة وأخذت تُراجع مع ابنتها إجابات الأسئلة للتأكد من الإجابة الصحيحة وأثناء ذلك كان يسمع صوتها وهي تتحدث إلى ابنتها وأخيها وارتسمت على وجهه ابتسامة لرؤية الفرحة على وجهها لإطمئنانها لإجابات ابنتها الصحيحة بالإمتحان شَعُر وكأنه يعرفها
من قبل حيث كانت تبدو ودودة في حديثها لطيفة صوتها هادئ ومن حديثها مع ابنتها أدرك أنها أم تهتم لأمر أبنائها كثيراً فقال لها بإذن الله سوف تنجح بتفوق وهنا ابتسمت وشكرته واقترب الدخول على بوابات المدينة حيث تسكن وفجأة ارتسمت
على وجهها ملامح الحزن فقد كان ما يدور برأسها ماذا سوف تفعل باليوم التالي كيف تذهب للمدرسة ؟
وهنا تبادر إلى ذهنها أن تسأله
هل يمكنه المجئ صباحاً بنفس الميعاد لإيصالهم للمدرسة وبالفعل سألته
فأجابها بالموافقة فأسرعت بالعرض عليه
أن يقوم بتوصيلهم كل يوم وبالأجر المتعارف عليه فوافق على الفور وأسرع بتعريفها بنفسه وحكى لها أنه لا يعمل كسائق ليس هذا هو عمله الأساسي وأنه خسر شركته نتيجة لتصفية شريكه الشركة وفض الشراكة بينهما وهنا اطمأنت أنها يمكنها الإعتماد عليه وسيرفع من عليها عناء البحث اليومي عن وسيلة للإنتقال
وكان الإتفاق ناجح بينهما وبالفعل كان منضبط المواعيد ولكن فضوله دفعه للسؤال عن حالها وأشفق على حالها
و مجهودها الشاق وبالفعل سألها
عن زوجها فقالت له عن ترك زوجها لها
وعن معاناتها مع ابنتها الصغيرة وأخيها
وأنه لا يوجد لهم أحد بالحياة سواها
وهي مَنْ تقوم برعايتهم وتربيتهم
اعتاد على رؤيتها كل يوم وكان بمثابة الإنسان الذي يمكنها أن تطمئن لأمانته وأخلاقه الطيبة والملاك الحارس الذي أرسله الله لها من السماء ليرحمها من العناء اليومي تعلَّق بها كثيراً أصبح حديثه اليومي معها هو ما يخرجه من همومه وأعباء الحياة حيث يتحمل مسئولية أمه المريضة وإخوته الصغار بجميع المراحل التعليمية منهم من هو بالجامعة ومنهم
من هو بالمدرسة بالإضافة إلى ابنه الصغير الذي ماتت أمه وهو مازال صغيراً بعد ولادته مباشرة وأصبح بالنسبة لابنه الأب والأم بنفس الوقت ولا يهمه من الحياة سوى سعادته وتوفير عيشة كريمة له وتعويضه عن حرمانه من حنان أمه وفقده لها بوفاتها وهو عبء كبير يقع على عاتقه مرت الأيام سريعاً و أشرف العام الدراسي على الإنتهاء وأثناء الطريق الذي كان يصطحبها فيه للذهاب لتوصيل ابنتها وأخيها للمدرسة رنَّ هاتفه الخلوي استأذنها للإجابة إنه مسؤول بأحد الشركات التي كان قد قام فيها بتأدية مقابلة للعمل بها أبلغه أنه تم قبوله وعليه أن يأتي لاستلام العمل وهنا نزل الخبر عليها كالصاعقة حزنت كثيراً برغم سعادتها لفرحته بقبوله بالوظيفة التي تمناها
ولكنها عادت مرة أخرى تفكر ماذا سوف تفعل بدونه ستعود مرة أخرى لعذاب المواصلات والبحث عن سيارة لإيصالها
هي والطفلين أما عنه برغم سعادته البالغة إلا أنه شعر بالحزن فقد تعلق بها كثيراً
و لن يتمكن من رؤيتها مرة أخرى تمنى
لو صرح عن شعوره تجاهها ولكنه كان إنساناً شديد الحساسية وعلى قدر كبير
من المسئولية وتردد كثيراً في التحدث إليها و مصارحتها بحقيقة شعوره تجاهها وشَعُر بالخوف من ردة فعلها أو أن تظن فيه السوء خاصةً وأنها قد اطمأنت إليه ووثقت فيه كما أن ظروفه الحالية لا تسمح له بهذا الإعتراف وهذه المسئولية حتى يتقدم للزواج منها كما أنه لا يعلم هل سوف توافق على الإرتباط به أم لا وهنا خانته شجاعته واستسلم ولم يُحدِّثها واكتفى بوداعها بآخر لقاء بينهما وتمنى لها السعادة ولم يعترف بشعوره نحوها و تركها وغرق بحزنه واكتفى بطلبه رقم تليفونها ليطمئن عليها وعادت هي لتواجه الحياة من جديد ولكنه كان إنساناً استثنائياً لم تقابل أحد مثله
من قبل في أخلاقه والتزامه
ولم يقابل هو مثلها من قبل لقد أحبها بالفعل وأدرك أنه لن يقابل مثلها بحياته فهي امرأة استثنائية أفنت حياتها من أجل سعادة آخرين هي رمز للعطاء والتضحية وتحمل المسئولية بدون انتظار مقابل
لا يمكن أن تتكرر كانت هي من تمنحه الأمل للعيش بالحياة وحالت الظروف بينهما وافترقا
انتهت حكايتنا لليوم
وأعدك عزيزي القارئ بلقاء جديد وحكاية جديدة من حكاياتي بالحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق